الحسكة – مجد السالم
تعتبر عملية إعداد “السليقة” في الحسكة وريفها أحد التقاليد القديمة التي توارثتها أجيال المنطقة، وتعكس عادات وتقاليد المجتمع في المنطقة.
ورغم تراجعه في السنوات الأخيرة، بدأ منذ منتصف أيلول الحالي موسم “السليقة” لدى بعض العائلات، وهي عملية سلق حبوب القمح، ثم تجفيفها وطحنها لإنتاج البرغل، الذي يشكل عنصرًا أساسيًا في المائدة لسكان المنطقة.
أرخص من السوق
نزهة الحسين (50 عامًا) من ريف بلدة جزعة جنوب شرقي القامشلي، تهدف من تحضير “السليقة” إلى توفير مادة البرغل بسعر رخيص، إذ يكلف شراؤها جاهزة من المحال التجارية أضعاف تكلفة صناعتها في المنزل.
قالت السيدة لعنب بلدي، إن سعر كيلو البرغل الجاهز من السوق يصل حتى 15 ألف ليرة سورية، أي أن شراء كيس من البرغل بوزن 20 كيلوغرامًا كمؤونة للشتاء يكلف العائلة 300 ألف ليرة سورية (20 دولارًا أمريكيًا)، في حين يمكن تحضير مؤونة للعائلة بكمية أكبر من 20 كيلو بنصف القيمة، في حال إعداد العائلة “السليقة” ثم صناعة البرغل منزليًا.
ومن خلال جولة لعنب بلدي على أسواق مدينة القامشلي، بلغ سعر كيلو القمح (حب) 6500 ليرة سورية، في حين كان سعر الكيلوغرام من البرغل 14 ألف ليرة سورية.
جزء من الذاكرة
لا تخفي نزهة سعادتها حين إعداد “السليقة”، وتعتبرها جزءًا من ذكريات الطفولة “الجميلة”، وطقسًا لا يمكن تجاهله، إذ يتجمع أطفال القرية حول القِدر الكبيرة (طنجرة كبيرة)، التي تضم عشرات الكيلوغرامات من القمح المغمور بالماء وهو يغلي، وعيونهم ترقب نضج القمح، وفي يد كل واحد منهم وعاء ليحصل على حصته من “السليقة”.
قالت نزهة لعنب بلدي، إن الأطفال والكبار يحبون “السليقة”، إذ يضع كل واحد منهم كمية منها بعد أن تنضج جيدًا، وتنتفخ حبات القمح في وعاء صغير (صحن)، ويضيفون إليها القليل من الملح أو أي نوع من البهارات المحببة لهم، ثم تؤكل مباشرة.
من السلق حتى البرغل
يبدأ إعداد “السليقة” بوضع قِدر كبيرة بقطر نحو متر أو متر ونصف على موقد النار، ثم تملأ بكمية مناسبة من الماء ثم يضاف القمح بعد تنظيفه جيدًا وغربلته من الشوائب أو الحصى المختلطة معه.
وتكون الكمية حسب حجم القِدر، وتشعل النار تحتها حتى تنتفخ وتسلق بشكل جيد، وغالبًا ما يتم الاعتماد على الحطب لإشعال النار، بحسب حديث يسر الخليف (55 عامًا) من ريف القامشلي الجنوبي.
بعد ذلك يكون مكان “التنشيف” جاهزًا قبل النضج، وغالبًا يكون ذلك على أسطح المنازل بعد وضع غطاء معين “كعازل” عن السطح.
وتترك “السليقة” عدة أيام مع التقليب يوميًا، ويفضل أن يكون تحضيرها في أيام فيها نسمات من الهواء من أجل الجفاف الجيد وعدم تعفنها بسبب الرطوبة، وبعد أن تجف جيدًا تصبح جاهزة لأخذها للمطحنة لصناعة البرغل.
تراجع في إعدادها
كان جميع سكان القرية يحضرون “السليقة”، “فلكل قرية قِدر أو أكثر يتناوبون على استعارتها وطبخ الحنطة فيها عدة أيام”، قال حسن الرميض (59 عامًا) من سكان قرية خويتله في ريف القامشلي.
بحسرة، يتابع حسن حديثه لعنب بلدي قائلًا، بعد موسم “السليقة” تأتي “الطاحونة” أو كما تعرف بـ”الجاروشة” (آلة لجرش وطحن القمح وصناعة البرغل تركب على أربع عجلات وتسحب بالحصان)، وقدومها إلى القرية كان يعتبر طقسًا فريدًا ومميزًا.
وأضاف أن “الجاروشة” كانت تبقى في كل قرية عدة أيام حسب حجم القرية، حتى الانتهاء من جرش جميع “السليقة” لدى الجميع.
أما حاليًا، فقد اختفت “الجاروشة” وذهبت معها “كل تلك الطقوس والذكريات”، والكميات القليلة التي تعد من “السليقة” حاليًا تطحن وتجرش في مطاحن المدينة، ختم حسن.
وبحسب ما علمته عنب بلدي من سكان في قرى الحسكة، فإن الأوضاع الاقتصادية المتردية وسنوات الجفاف أثرت سلبًا على صناعة مؤونة البرغل من “السليقة”، فلم يعد الفلاح قادرًا على الاحتفاظ بأكياس من القمح كالسابق، وبات همه بيع القمح وتسديد الديون.
كما أن الهجرة من الريف إلى المدينة للبحث عن فرص العمل، وحتى اللجوء إلى الدول الخارجية، وتغير طبيعة السكان ونمط حياتهم، جعل من “السليقة” مجرد طقس “للتعبير عن الحنين للماضي”، وهو ما رصدته عنب بلدي بقيام بعض سكان أحياء القامشلي بتحضير “السليقة” من أجل توزيعها على الأطفال والسكان المحليين الذين يحبون هذه الأجواء والطقوس وليس بغرض إعداد مؤونة للشتاء.