مرت 12 عامًا ولا تزال أهوال القتل والذبح والحرق عالقة بذاكرة سمر الكسار، حين ملأت رائحة الموت حيي الجورة والقصور في 25 من أيلول 2012، بعد أن طغت صرخات شباب الحي وأصوات الرصاص على أي صوت آخر.
قالت سمر لعنب بلدي، إن عناصر قوات النظام كانوا يقتلون شبان الحي و”كأنهم في رحلة لصيد العصافير”، والمؤلم أكثر أن برفقتهم عناصر من أبناء دير الزور شاركوا بقتل أبناء مدينتهم.
شقيق سمر نجا من الموت حينها، إثر تعرف أحد عناصر قوات النظام الذي ينحدر من مدينة حماة عليه، إذ كانت تجمعهما صداقة سابقة في أثناء تأدية الخدمة الإلزامية قبل انطلاق الثورة في آذار 2011.
بينما لا تنسى سمر مشهد قتل ابن خالتها، حينما كان يصرخ فيه أحد عناصر النظام بلكنة ساحلية “مين ربك”، لتكون إجابته هي آخر كلمات له بعد رده “الله”، إذ انهال عليه عناصر النظام بالضرب وأجهز عليه أحدهم بإطلاق نار كثيف عليه وحرق جثته.
عائلات كاملة من أبناء دير الزور كانت ضحية المجزرة، منها عائلة عبد الكريم عبوش وعبد الصمد والتبن والصليبي، ومعظم الجثث دفنت دون التعرف عليها، فقوات النظام أحرقتها أو فصلت الرأس عن الجسد.
اقرأ المزيد: “الثلاثاء الأسود”.. تاريخ مؤلم في ذاكرة أهالي دير الزور
مئات الجثث
12 عامًا مضت على مجزرة “الجورة والقصور” ، وما زالت تفاصيلها عالقة في أذهان الأهالي، بينما لا يزال الجناة بلا محاسبة رغم القتل والانتهاكات في المجزرة التي قتل فيها حوالي 500 مدني، والتي أطلق عليها ناشطون من دير الزور آنذاك اسم “الثلاثاء الأسود”.
نفذ المجزرة “الحرس الجمهوري” و”الفرقة الرابعة” في قوات النظام، وبعض عناصر الميليشيات الإيرانية.
في صباح اليوم الأول للمجزرة، اجتاح قائد كتائب المهام الخاصة في “الحرس الجمهوري”، علي خزام، حي الجورة من ثلاثة محاور، وطوقه بالكامل، ومن ثم داهم المنازل واعتقل عددًا من المدنيين.
ونشر ناشطون إعلاميون على مواقع التواصل الاجتماعي حينها تسجيلات مصورة تظهر إعدام أكثر من 100 رجل وسط حي الجورة.
وظلت أخبار المجازر التي ترتكبها قوات النظام السوري على مدار ثلاثة أيام في حيي الجورة والقصور طي الكتمان، حتى عُثر على عشرات الجثث من قبل الأهالي في أقبية أحد المنازل بحي القصور، إضافة إلى عشرات الجثث المتفحمة في منطقة النوامير.
واستمرت سيطرة النظام السوري على حيي الجورة والقصور منذ حملة “الحرس الجمهوري”، بالرغم من تمكن فصائل المعارضة من السيطرة على معظم أحياء مدينة دير الزور، بالإضافة إلى ريف المحافظة.
كما تعرض الحيّان لحصار مطبق من قبل تنظيم “الدولة” بدأ منتصف عام 2014 وانتهى مع سيطرة قوات النظام بدعم روسي وإيراني على معظم أجزاء المحافظة، عقب معارك مع التنظيم نهاية عام 2017.
“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” قالت في تقرير لها، إن قوات النظام اقتحمت الحي بعد قصفه لعدة ساعات بالأسلحة الثقيلة، تلاه اقتحام بالمدرعات وعمليات تمشيط ومداهمة للمنازل واعتقال.
اقتادت القوات المقتحمة المعتقلين من بينهم أطفال إلى الساحة العامة وعذبتهم بعد تكبيل أيديهم مع ترديد شعارات طائفية، وقتلت معظمهم رميًا بالرصاص، واقتادت الآخرين إلى شوارع أخرى وأعدمتهم أيضًا رميًا بالرصاص.
وثقت “الشبكة” مقتل 192 شخصًا بينهم 12 امرأة وسبعة أطفال، ومعظم الجثث تم اكتشافها بعد أسابيع من المجزرة، وعدد من الجثث تعرض للحرق.
اقرأ المزيد: دير الزور.. إزالة القبور من حديقة “المشتل” يعيد ذكريات 2013
صور مروعة
في صباح 26 من أيلول 2012، دخل “الشبيحة” منزل رغد (طلبت عدم ذكر اسمها الكامل لأسباب أمنية) بعد خروج والدها إلى منزل مجاور تقطن فيه جدتها.
وفي لحظة سماع رغد أصوات عناصر النظام يتغنون فرحين بمناظر الجثث الملقاة على قارعة الطريق، طرق الباب عناصر النظام، وهنا أحست رغد أنها “لحظة نهاية حياتها مع عائلتها”، بحسب ما قالته لعنب بلدي.
الخوف الذي أصيبت به رغد، سبقه أخبار اعتقال وتصفية واغتصاب الفتيات أمام ذويهم قبل تصفيتهم، وسماع صرخات التعذيب والموت.
روت رغد لعنب بلدي اللحظات التالية لطرق الباب، فهي لحظات لن تنساها لشدة الخوف الذي عاشته، إذ سأل أحد الضباط والدتها عن الرجال في المنزل، لتجيبه والدته بأنه ذهب في منزل مجاور.
أمر الضابط أحد العناصر بإحضاره، ليعم الخوف المكان بعد سيلان الدماء من فم والدها الستيني، وتورم عينيه من اللكمات التي تلقاها من عناصر النظام.
خوف آخر تسلل إلى قلب العائلة، وهو تفتيش الهواتف النقالة، فهاتف والدة رغد فيه مقاطع مصورة لتشييع أخيها الذي قتله عناصر النظام في إحدى المظاهرات السلمية، إضافة إلى صور أشقائها المنتسبين لـ”الجيش الحر” حينها، والذين كانوا في أحياء الجبيلة والرشدية.
انهال العناصر على الجميع بـ”الضرب والشتم والكفر”، وسحب أحد العناصر سيفًا ليجهز عليهم، لكن الضابط المسؤول أمره بعدم فعل ذلك، لتبقى هذه الذكرى عالقة لما شاهدوه في ذلك اليوم، بحسب قول رغد.