الصحافة العابرة للحدود.. سوريا الأكثر احتياجًا

  • 2024/09/22
  • 2:40 م
الصحفي علي عيد

علي عيد

منذ نشأة الصحافة، رافقتها الأخبار والتقارير والقصص العابرة للحدود، فالحروب و”كارتيلات” المخدرات وشبكات الفساد، كانت مادة خصبة لتحقيقات كبيرة أنجزها صحفيون بأسلوب تعاوني أثبت نجاعته في عالم يتحول اليوم إلى قرية صغيرة.

يتزايد الاهتمام بالصحافة العابرة للحدود (Cross-border) مع مزيد من تداخل المصالح، وسهولة الانتقال الفيزيائي والافتراضي للأموال والبشر، وحتى مع وجود ظواهر لا يقتصر أثرها على شعب أو أمة أو دولة أو مجموعة بشرية أو جماعة بعينها، ما فرض على الصحافة تطوير أدواتها، وخصوصًا الاستقصائية منها.

بالنظر إلى ما يحدث في العالم اليوم، وإذا أخذنا مثالًا قطاع المال، فإن بمقدور أي إنسان يملك المال وحسابًا بنكيًا وهاتفًا ذكيًا أن يدير تجارة في أي مكان في العالم، ورغم كل التشديد والضوابط التي تضعها الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن هناك قدرة لدى المتحايلين على ابتداع أساليب لنقل المال، وتمويل أعمال غير مشروعة، أو إدارة نشاط “Offshore” للاستفادة من التخفيضات الضريبية والابتعاد عن الرقابة المالية.

وإذا نظرنا إلى ظواهر الطبيعة أو قضايا البيئة، نجد أن الزلازل والبراكين والتلوث بالغازات الصناعية، تتجاوز بأثرها أي حدود، بل تؤثر على كوكب الأرض بأكمله.

أما الصراعات والحروب، فتلك قصة أخرى على السباق العابر للحدود، فقد عرف العالم الغزوات والانتقال إلى أماكن أخرى سعيًا وراء الصيد وسبل العيش منذ نشأة الخليقة.

كل ما سبق، يدفع للقول إن الصحافة العابرة للحدود لا يمكن أن تكون مفهومًا مستحدثًا أو عصريًا للتغطيات الصحفية، فقد كانت روما القديمة تتناقل أخبار الانتصارات والحروب وقضايا الشأن العام عبر السجلات اليومية (Acta Diurna)، وهي لوح حجري يوضع في الساحات داخل المدينة، ما يعني أن هناك ما كان يأتي من خارج الحدود، وهناك من يعتني بإيصاله ثم نقله إلى العامة.

ما اختلف في مفهوم الصحافة العابرة للحدود اليوم هو مهامها ومسؤولياتها، والتحديات الناشئة أمام الصحفيين للكشف عن قضايا معقدة غائبة عن الرأي العام.

تقترح الصحفية الألمانية الدنماركية بريجيت ألفتير (Brigitte Alfter)، وهي مديرة مؤسسة “ساحة الصحافة في أوروبا”(Arena for Journalism in Europe)، خطوات بناء “ربط شبكي” بين الصحفيين، حسب الضرورات وطبيعة الموضوع.

يهدف “الربط الشبكي”، بحسب ألفتير في كتابها “الصحافة التعاونية عبر الحدود: دليل خطوة بخطوة”، للحصول على المعلومات بأقل جهد وأقصر مدة.

وتصنف ألفتير الشبكات إلى “فضفاضة” من دول بينها روابط مختلفة، لا تلزم عناصرها بالتعاون الوثيق، ويعمل عناصرها كعيون وآذان لبعضهم لتبادل تغطيات الأخبار والتقارير.

وكذلك أسلوب “المساعدة لمرة واحدة” بطلب فردي للحصول على ترجمة أو معلومة حصرية أو صورة أو وثيقة، أو شبكة “التعاون المحدود” الذي يتطلب الثقة في الكفاءة والنزاهة المعتادة فحسب.

وهناك “التعاون الوثيق” لتبادل المعلومات كاتحاد ملزم، أشبه بفريق بحث داخل غرفة أخبار واحدة يتمتع بمستوى عالٍ من الثقة المتبادلة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمصادر حساسة.

تتعاظم أهمية الصحافة العابرة للحدود على مستوى العالم، ويبدو أن بلدًا مثل سوريا هو أكثر احتياجًا لهذا النمط من “الصحافة التعاونية” (Cooperative journalism)، لأسباب تتعلق بمستوى الفساد المرتفع وتراجع الشفافية، إذ تأتي سوريا في المرتبة 177 من أصل 180 على مؤشر “منظمة الشفافية الدولية” (Transparency International) لعام 2023.

كما تتصارع على الأرض السورية بضعة جيوش تتقاطع مصالحها مع عشرات القوى المحلية المسيطرة على أرض الواقع، فيما باتت البلاد أكبر مصنع ومصدر للمخدرات، كما تنتشر شركات الواجهة التي تدير اقتصاد الحرب.

ويعتبر تراجع مستوى الحريات إلى أدنى مستوياته، ومنها حرية الصحافة، دليلًا على أهمية الاعتماد على تعاون الصحفيين داخل وخارج الحدود، للكشف عن الظواهر الخطيرة، والدفاع عن الفئات المهمشة وضحايا الحرب، وتسليط الضوء على حركة التجارة غير المشروعة ونقل الأموال، والفساد في القطاعين الحكومي والخاص، والأهم عدم قدرة الجمهور على تحديد موقف أو الاطلاع على الحقائق، ما يسهم في ابتعاده عن الشأن العام، وإلغاء دور الرأي العام لملايين السوريين في صناعة مستقبلهم، والمساهمة في بناء البلاد.

تسيطر اليوم ميليشيا ورجال أعمال فاسدون على مفاصل الحياة العامة في سوريا، وترتبط الجماعات المسيطرة بمصالح خارج الحدود، أو تديرها جهات خارجية، في الوقت الذي تمتنع فيه الحكومة عن كشف تعاقداتها السرية مع الدول الحليفة التي استولت على مختلف القطاعات، مثل النفط والمواني والزراعة والبنوك والتأمين والعقارات، ما يعني أن جهدًا مشتركًا لصحفيين مستقلين يمكن أن يشكّل فارقًا في هذه البيئة العمياء.. وللحديث بقية.

مقالات متعلقة

  1. حرية الصحافة.. "أي شيء في العيد نهدي إليك"
  2. دول ديمقراطية عظمى تهدد حرية الصحافة في العالم
  3. الصحافة الفاسدة.. نموذج "كول وشكور" العربي
  4. تداعيات حملة "عابرون لا أكثر".. ما هو مصير المشاركين؟

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي