فِخَاخ متفجرة بين المدنيين

  • 2024/09/22
  • 2:14 م
لمى قنوت

لمى قنوت

لمى قنوت – رهام قنوت رفاعي

تسود سردية إعلامية محليًا ودوليًا عن موجتي الاعتداء الأخيرتين على أجهزة “البيجر” (pager) واللاسلكي في لبنان تتطابق مع البروباغندا الصهيونية، التي تصورها كعمليات دقيقة استهدفت و”حيّدت عناصر” من “حزب الله” فقط، وكأنها ضربة مباشرة على مقاتلين في جبهة قتال.

تُصَنِّع هذه السردية رضًا جمعيًا (Manufacturing consent)، وتُشرعن الاعتداء بشكل أو بآخر، بدل من أن تضعه في إطاره الواقعي على الأرض، وهو أن إسرائيل حولت أفرادًا إلى متفجرين انتحاريين غير طوعيين (involuntary suicide bombers) داخل البيوت والأسواق والمتاجر والمستشفيات وغيرها من المساحات العامة والخاصة المدنية، وبالتالي فهو اعتداء مباشر واسع النطاق على جميع المدنيين، نساء ورجالًا وأطفالًا في لبنان، بغض النظر عن خلفياتهم وانتماءاتهم، وهو اعتداء يصنف كعمل إرهابي وجريمة حرب بحسب القانون الدولي.

في القانون الدولي

يحظر القانون الإنساني الدولي العرفي استخدام الفِخاخ المتفجرة التي يمكن أن تجذب الناس أو تُستخدم في الحياة اليومية، لتفادي تعريض المدنيين، نساء ورجالًا وأطفالًا، لخطر شديد. وتعتبر جريمة التفجيرات هذه جريمة حرب أيضًا بأهدافها المباشرة، لأنها لم تميز بين حاملي الأجهزة المفخخة العسكريين والمدنيين، نساء ورجالًا، العاملين أو المتطوعين في مؤسسات مدنية تابعة لـ”حزب الله”، تلك الأجهزة التي انفجرت بطريقة عشوائية وعمياء بحامليها وأسرهم ومحيطهم في كل مكان، والتي ارتقى على إثرها الطفل محمد كنج، والطفلة فاطمة عبد الله، التي كانت قد التقطت “البيجر” في منزلها حين أصدر صوتًا لتعطيه لوالدها. وهي أيضًا جريمة حرب قام بها الاحتلال، لأنه أنشأ شركة وهمية واستخدمها كواجهة لمؤسسة تجارية مدنية بنية الغدر، الأمر الذي يحظره الملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف في المادة رقم “37”.

استهداف وترهيب المدنيين

أجرت إحدى شركات تدريب قطاعات عسكرية وصناعية ودفاعية، متخصصة بالذخائر والمتفجرات والكشف عنها في جنوب بنسلفانيا، تجربة على دمية أمام مراسل “CNN”، لفهم مدى الأذى الذي سببه تفجير أجهزة “البيجر” و”الووكي توكي” في لبنان، والملغمة بمادة “PETN” شديدة الانفجار، ووضعوا نفس المادة داخل جهاز “بيجر”، وثبتوه على خصر دمية، وقاموا بتفجيره لتوضيح الأذى المدمر على جسم الإنسان، وأجروا تجربة أخرى بعد أن ربطوا جهاز اتصال لاسلكي ملغم بالقرب من رأس دمية، وفجروه، فتسبب في تفجير الرأس، وأشاروا إلى أن التفجير قد يشطر الرأس إلى شطرين إذا كان خلفه أي شيء صلب، وسيؤدي إلى انفجار ما بداخله إلى الأمام، وأضافوا أن الانفجار حين يحصل في أماكن مزدحمة قد يشابه أذاه انفجار قنبلة صغيرة جدًا، وسيصاب بالشظايا عدد كبير من الأشخاص.

لقد سببت هذه الفِخَاخ حالة ذعر وقلق لدى اللبنانيين واللبنانيات بشكل عام، وبين العاملين والعاملات في القطاعات التي تستخدم “البيجر”، مثل المستشفيات، وعبّرت الطبيبة دانيا الحلاق عن اللحظات الأولى بعد موجة التفجير كالتالي: “لم نفهم ما الذي كان يحدث، في تلك اللحظة بدأنا بتلقي رسائل نصية حول انفجار أجهزة البيجر (…) كنا خائفين لوجود أجهزة بيجر في المستشفى، لذا، في تلك اللحظة، تم إغلاق جميع تلك الأجهزة في المستشفى”. وأسهم انتشار الشائعات حول إمكانية انفجار أنواع أخرى من الأجهزة الإلكترونية في زيادة حالات الهلع بين الناس ولدى العاملين والعاملات في المحال التجارية التي تبيع تلك الأجهزة.

وكانت مشاهد إصابات حاملي هذه الأجهزة مرعبة بالنسبة للناس، مثل ارتطام راكبي الدراجات النارية في الجدران وسقوطهم في الأسواق وهم يتلوون من الألم، ووصف محمد عواضة الذي كان وابنه يقودان سيارتهما بجوار رجل انفجر جهاز “البيجر” الذي كان بحوزته، بأن ابنه أصيب بالجنون وبدأ بالصراخ عندما رأى يد الرجل تطير بعيدًا عنه، وقالت إحدى اللبنانيات: “شباب مصابون بأيديهم أو عيونهم أو بمنطقة الخاصرة، الناس يتساقطون من حولنا، دون أن نعلم سبب هذا السقوط المفاجئ، أصبحنا نخاف السير بجانب بعضنا البعض، مشاهد مجزرة بكل معنى الكلمة”.

شبّه عدد من الأطباء المشهد في المستشفيات بتفجير مرفأ بيروت في 4 من آب 2020، ففي يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين الموافِقَين لـ17 و18 من سبتمبر/أيلول 2024، استنفرت 64 مستشفى لاستقبال 2931 جريحًا وجريحة، وقام الفريق الطبي في مستشفى “رزق” على سبيل المثال بإجراء أكثر من 70 عملية عيون طارئة في عضون 24 ساعة، أما بالنسبة لإصابات اليدين وعمليات البتر فسيضطر العديد من الجرحى إلى الخضوع لعدة عمليات قبل استقرار حالاتهم.

تكافل عابر للطوائف

بالرغم من الانقسام الطائفي السياسي الحاد في لبنان، فإن هذا الاعتداء فُهِم في الوعي الجمعي اللبناني على أنه استهداف لكل لبنان وعمل متوحش لا إنساني، ففزع الناس لبعضهم في الشوارع وقاموا بنقل الجرحى للمستشفيات، وانطلقت مناشدات وحملات عابرة للطوائف للتبرع بالدم، وقامت مجموعات شبابية قاعدية بالتوجه إلى محيط المستشفيات للمساعدة بتنظيم السير وتسهيل وصول المتبرعين بالدم، نساء ورجالًا، وعرضت بعض شركات نقل خاصة خدماتها مجانًا لنقل المتبرعين من وإلى المستشفيات.

إن الاحتفاء والتطبيع مع تلغيم وتفجير أجهزة اتصال وتسويقه على أنه نجاح استخباراتي، وعلى أنه عملية محددة ودقيقة هو مستوى جديد غير مسبوق من التطبيع مع استباحة المدنيين، نساء ورجالًا وأطفالًا، وهو ذات التطبيع مع جريمة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي يرتكبها الاحتلال في فلسطين المحتلة، وهو رسالة من داعمي جرائم الاحتلال لشتى الأنظمة والجماعات تُشرعن فيها استخدام هذا السلاح كأداة حرب ناجعة في الصراعات.

مقالات متعلقة

  1. تايوان تنفي صناعة أجهزة لبنان المتفجرة على أرضها
  2. سبعون قتيلًا.. حصيلة قصف لبنان في ثلاثة أيام
  3. ما أجهزة "آيكوم" التي انفجرت في لبنان
  4. الفاشية وشيطنة اللاجئين واللاجئات في لبنان

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي