تعا تفرج
نعم.. الخيانة وجهة نظر
خطيب بدلة
مشكلتنا مع أصحاب العبارات الجاهزة عويصة. عندما يتحدث الواحد منهم، يطلق على مستمعيه وابلًا من العبارات التي يحفظها غيبًا، وفي أغلب الأحيان، لا يعرف معناها.
يقول لك، وابتسامة العارف، الواثق من نفسه، لا تفارق محياه: “الخيانة ليست وجهة نظر”، وهو يعني أنك، إذا ارتكبتَ الخيانة، فلن تستطيع تسويغ موقفك، مهما حاولت، وهذا يتبع عبارة محفوظة أخرى، هي: الخيانة خيانة، ليس لها اسم آخر.
هذه الفكرة، في الحقيقة، بالغة الالتباس. فعندما تقرر، حضرتك، أن فلانًا الفلاني خائن، يصبح من حقنا أن نسألك: مين حضرتك؟ شو صفتك؟ ومين نصبك قاضي في محكمة الوطنية؟ وعندما تقول إن فلانًا خائن، نسألك: هو خائن لمين؟ لأي قضية؟ ولنفرض أن حضرتك، الآن، لاجئ في مدينة مالمو السويدية، والشخص الذي تتهمه بالخيانة مقيم في مدينة هامبورغ الألمانية، ماذا ستفعل بشأنه؟ وكيف ستحاسبه على خيانته؟ أم أنك ستكتفي بتخوينه، وتحريض الناس عليه، وتتابع قضايا اللجوء الخاصة بك في السويد؟
في سنة 1972، خرجت مظاهرات في شوارع مدن عربية كثيرة، تندد بالرئيس التونسي، الحبيب بورقيبة. كانت تلك الجماهير تردد عبارة “بورقيبة خاين”، والسبب أنه دعا الحكام العرب لإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، مع أن الدولة التونسية ليست من دول المواجهة، وما قاله بورقيبة لا يعدو تقديم رأي، أو مشورة، أو نصح، ولا يحتاج الأمر إلى كل ذلك الغضب، وتلك المظاهرات التي ينتظم فيها عدد كبير من الذين لم يسمعوا ببورقيبة أصلًا، ولا يعرفون ماذا قال، وما هي تهمته!
وأما الرئيس المصري، أنور السادات، فلم يقدم رأيًا، ولا نصيحة، فهو رئيس أكبر دولة مواجهة مع إسرائيل، وخاض، في سنة 1973، الحرب الأكبر، والأقوى، والأوسع في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، ثم ذهب، من منطلق القوة، لا الضعف، إلى إسرائيل، وبدأ عملية سلمية انتهت بمعاهدة “كامب ديفيد” الشهيرة.
الآن: من وجهة نظر القوميين العرب، أنور السادات خائن، لأنه وجه ضربة قاصمة لظهر القضية التي يتبنونها، قضية فلسطين، وترك إسرائيل وحلفاءها يستفردون بالفلسطينيين، ويعملون على إنهاء القضية، وبالنسبة لتشكيلة الجماعات الإسلامية المتفرعة عن تنظيم “الإخوان المسلمين”، السادات خائن، لأنه صالح “اليهود”، وأما المجتمع الدولي، فقد اعتبره من أبطال السلم العالمي، وفي 27 من تشرين الأول 1978، مُنح، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، جائزة “نوبل” للسلام، وللعلم، عموم الشعب المصري (عدا القوميين والإسلاميين)، يعتبرون السادات بطلًا قوميًا، بل أيقونة مصرية، لأنه حقن دماء المصريين، وحقق لهم الاستقرار، وحال بينهم وبين الانهيار الاقتصادي، الذي كان يتأثر بحالة الاستعداد الدائم للحرب. وعلى الصعيد السياسي الرسمي، في مصر، سنجد أن الرؤساء الذين تعاقبوا على الحكم بعد اغتيال السادات، وبضمنهم الرئيس الإخواني، محمد مرسي، ظلوا ملتزمين بمعاهدة السلام، فلو كان أي منهم يعتبرها خيانة لمصر، لسارع إلى نقضها، وتجديد حالة الحرب مع إسرائيل.
مشكلة الأمة العربية والإسلامية، الأزلية، هي أن هذه المناقشات، المنطقية، والعقلية، ممنوعة، ومَن “يتجرأ” ويتحدث بها، لا دواء له سوى “التخوين” ثم القتل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :