حماة وحمص.. صراعات من أجل النكتة
عنب بلدي – حسام المحمود
تحمل علاقات البلدان العربية المتجاورة طابعًا من التنافس قد تغيب عنه حالة الألفة على المستوى السياسي لتتبدى على المستويات الشعبية والأهلية، بما يضع كل بلدين تقريبًا في إطار ثنائيات لا يكتمل أحد طرفيها دون الآخر.
وإذا كانت هذه الحالة فجّة الحضور على مستوى البلدان، فالوضع مختلف عند قياسه على مدينتين متجاورتين ضمن البلد الواحد، إذ يتراجع التنافس السياسي والخلاف على ترسيم حدود أو تبعية إقليمية أو دولية، لينال الموروث الشعبي والثقافي حضورًا أوسع في هذه العلاقة التي تعبر عن نفسها في الصراعات والأزمات الكبيرة من زلازل وتحركات سياسية ومطالبات بالتغيير.
حمص وحماة، مدينتان متجاورتان وسط سوريا، تحكمهما علاقة لا يخلو إطارها العام من الظرافة و”خفة الدم” بالحديث عن النكتة وتصدّر حمص للمشهد، والخلافات الهامشية غير العميقة حول الأحقية بنهر “العاصي”، أو “حلاوة الجبن”، وهي نوع من الحلويات الباردة التي تعتمد القشطة والعجين في تكوينها.
مروى، شابة سورية من محافظة حماة، أوضحت لعنب بلدي أن طبيعة العلاقات بين الحمويين والحمصيين قائمة على الود والمزاح، بحكم قرب المسافة بين المدينتين من جهة، وحالة التكامل التي يخلقها قرب المسافة، فيذهب الحموي إلى حمص للتسوق، ويزور أبناء حمص المدينة الجارة بسلاسة.
وترى مروى أن أبناء حمص متضررون في هذه العلاقة كونهم ضحايا النكتة والدعابة، مشيرة إلى حالة النزوح التي خلفتها عمليات النظام السوري العسكرية في حمص، وانتقال كثير من أبنائها للإقامة في حماة، وبيّنت أن العلاقة بين أهالي المحافظتين قائمة في أساسها على المودة، مع تقارب في الطباع والعادات والأطعمة، وأسماء الأطعمة، موضحة أن هناك أطعمة أو خضراوات معينة لها أسماء حموية خاصة يفهمها أهالي حمص دون باقي المحافظات.
كما أن كثيرًا من أبناء حماة كانوا يدرسون في جامعة “البعث” بحمص، قبل إنشاء جامعة في حماة، حين كانت فيها بعض الفروع الجامعية التابعة لجامعة “البعث”.
في السياق نفسه، أشار إياد، وهو شاب من أبناء حمص، إلى أن حالة التقارب والجوار بين المحافظتين تعزز علاقتهما مقارنة بالعلاقة مع أبناء المحافظات الأخرى.
وفي الوقت الذي يتداول به السوريون سؤالًا قائمًا على النكتة حول مصدر “حلاوة الجبن”، يتفق إياد مع أصدقائه الحمويين على أن مصدر العجين لهذا النوع من الحلويات حمصي، بينما حشوتها من القشطة والحليب حموية.
جنون الناس وجمال النساء
الكاتب السوري محمد مخلص حمشو، من أبناء محافظة حماة، يرى في النكات فلكلورًا يعبر عن أدب غير مكتوب، وثقافة شعبية غير مدونة، كما يرى فيها أدبًا شفهيًا غير مسجل، يرتبط مع الحياة والمعيشة اليومية وعادات وتقاليد السكان في المدينتين، وميراثًا يبعث روح الألفة والمودة والمحبة والتواصل والامتداد.
حمشو، وهو ضابط متقاعد من مواليد 1944، وعضو في اتحاد الكتّاب العرب، وجمعية القصة والرواية، أشار إلى حالة التزاوج والقرابة والزيارات وتشابه الأعياد والطقوس بين المدينتين، وفق ما نشرته “حماة ناشونال جيوغرافيك“.
أبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الموصلي (رحالة من علماء البلدان)، امتدح حمص وهواءها، وكان أول من وصف أهلها بـ”الخبل”، كما وصفهم ياقوت الحموي بـ”الحمقى”، لكن الشريف الإدريسي امتدح جمال النساء وحسن بشرتهن بحمص، في “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”.
وفي كتابه، “جولة أثرية” (صفحة 336)، قال أحمد وصفي زكريا، إن الحمصيين كانوا في العصور الإسلامية الأولى ذوي أنفة وعصبية، جعلتهم يثبون مرارًا ضد عمال الأمويين والعباسيين، فتأتيهم الجيوش للتأديب والتنكيل، “ومن كثرة الضربات التي أنزلت بهم وشدتها صار من يريد أن يتخلص من تبعة هذه الفتن الموقدة يتظاهر بالبله والخبال مدة مديدة (…) ولما كثر هؤلاء المتظاهرون، صار الغرباء يظنون شيوع ذلك في كافة أهل حمص، وتناقلت الألسن هذه الشائعة ولم يعد في الإمكان التقاطها”.
أما حماة، وتدعى “مدينة النواعير”، فتعود أصول سكانها، وفق بعض الروايات التاريخية، إلى ذرية كنعان بن حام، ابن النبي نوح، إذ أقام بعض من ذرية نوح في وادي العاصي، وفي عام 1000 قبل الميلاد، دخلت حماة في حكم النبي داوود، وبعد مئات السنين استولى عليها الإسكندر اليوناني، وتعاقب عليها حكم اليونانيين حتى حكمها الرومان عام 66 للميلاد، وهم من أقاموا نواعيرها على نهر العاصي.
ومن الموروث الثقافي والشعبي بين حماة وحمص، “المعارضات الزينية على المنظومات الهلالية”، إذ كان محمد بن الشيخ محمد الهلالي شاعرًا وأديبًا لامعًا من حماة، وميالًا للجمال ومفتونًا بمحاسن النساء وكثير الغزل بهن وبالقدود والخدود والنحور، أما الشيخ مصطفى زين الدين الحمصي، فكان تقيًا حافظًا للقرآن يكتب المعارضات الشعرية لقصائد الهلالي على نفس الوزن والقافية، لكن في مديح الموائد والقدور والأطعمة.
ويمكن الاطلاع على هذا النوع من التراث الأدبي الطريف بين المدينتين عبر “ديوان تذكرة الغافل عن استحضار المآكل“، المعروف باسم “المعارضات الزينية على المنظومات الهلالية، لمؤلفه محمد الخالد الجلبي الحمصي.
“الأربعاء الحمصي”
من المتداول بين السوريين على سبيل الدعابة، أن يوم الأربعاء يمثل عيدًا لدى أبناء حمص، وأن الأربعاء يوم لجنون الحمصيين، بما لا يتعدى النكتة والطرفة.
في كتابه “جذور النكتة الحمصية”، الصادر في 2009، يوضح جورج كدر (صحفي وكاتب سوري من حمص)، أن ارتباط يوم الأربعاء حتى الوقت الحاضر، في ذاكرة حمص، بيوم المجانين، يعود في جذوره إلى معنى ديني ميثولوجي لا معنى دنيوي مرتبط بشعب له يوم في الأسبوع يمارس فيه “جنونه”.
تحكي الرواية المتناقلة على نطاق واسع، دون ما يثبتها تاريخيًا، أنه بعد تجاوز القائد المغولي، تيمور لنك، مدن حلب والسلمية وحماة وتدميرها ونهبها، وجد أهالي حمص وقد ارتدوا أزياء غريبة، وعلّقوا القباقيب على صدورهم، وكانوا يضربون الأواني، ففوجئ جيش التتار بتهريج الحماصنة وابتعد عنهم.
الكاتب جورج كدر في مؤلفه “فن النكتة”، يرجع إلى روايات أقدم، إلى الفترة التي كانت تسود فيها “ديانة الخصب” في هذه المنطقة، وهي الديانة التي ابتكرها أهالي حمص كثاني ديانة شمسية بعد الأخناتونية في مصر، وكان فيها إلههم “إيلاك بعل”.
وتقول الرواية، إن طقوس العبادة في تلك الديانة تتجلى بإعادة تمثيل الأسطورة عن أن العالم بدأ بفوضى ثم قام الإله بتنظيمه، ومن بين تلك الطقوس والاحتفالات عيد يسمى عيد المجانين يقام يوم الأربعاء، ويمثل ثورة الطبيعة قبل خلق الهدوء والسكينة.
معاناة مقسومة على مدينتين
تبلغ مساحة محافظة حمص 40.9 ألف كم مربع، وهي أكبر محافظات سوريا مساحة، وتشكل 22% من مساحة سوريا، وكان عدد سكانها حتى عام 2010 يقدّر بمليون و744 ألف نسمة، موزعين على 13 مدينة و26 ناحية و15 بلدية و501 قرية و478 مزرعة، وفق بيانات “المكتب المركزي للإحصاء“.
من جهة أخرى، تقع حماة على نهر “العاصي”، على مسافة 210 كيلومترات، شمالي العاصمة، في منتصف المسافة بين دمشق وحلب، وتبلغ مساحتها نحو تسعة آلاف كيلومتر مربع، وكان عدد سكانها حتى 2010 نحو 750 ألف نسمة.
تقاسمت المحافظتان الجارتان شيئًا من ضرائب محاولة التغيير والتحرر من النظام السياسي الاستبدادي الحاكم منذ عقود، فجاءت الضريبة مقسمة على مستوى الزمن والمرحلة، ليرتكب النظام السوري المجازر في حماة، بزمن حكم الأسد الأب، في ثمانينيات القرن الماضي، كما ارتكب النظام المجازر في حمص التي لقبت بـ”عاصمة الثورة”، بعدما انضمت سريعًا للحراك الشعبي السلمي الذي انطلق في سوريا عام 2011، للمطالبة بالتغيير السياسي وإسقاط نظام حكم الأسد الابن.
وفي الوقت الذي دمرت به آلة النظام العسكرية، بالمدفعية والصواريخ والبراميل، مدينة حمص، حاولت حماة تجنب هذا المصير بعدما خبرت مبكرًا أسلوب النظام في التعاطي مع مطالب التغيير، رغم تسجيلها مظاهرات حاشدة منذ بداية الثورة السورية، عاين إحداها بشكل مباشر في تموز 2011، السفير الأمريكي في سوريا حينها، روبرت فورد.
وتعتبر حمص أغنى بتنوعها الثقافي والاجتماعي والمذهبي، مقارنة بحماة، التي يشكل المسلمون غالبية مكونها الاجتماعي، مع وجود نسبة قليلة من المسيحيين يتركز معظمهم في حي “المدينة”، ما يعكس الصورة الاجتماعية عن حماة كمدينة محافظة، في الوقت الذي تبدو به حمص أكثر انفتاحًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :