علي عيد
لا يعرف مليارات البشر ما الذي يجري من خلف ظهورهم، وكيف يدير الإعلام الموجه مستقبلهم وحياتهم، عبر شركات متخصصة ومواقع التواصل الاجتماعي.
العالم في لحظة ذروة الاستلاب المعرفي حين يقبض صانعو التكنولوجيا وجامعو البيانات على حركة التاريخ وصناعته، وحتى على مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، وهي دولة “سيليكون فالي” (Silicon Valley) نفسها، بديمقراطيتها التي يحميها الدستور، ويحمي حقوق المواطنين فيها، ويحافظ على حقهم في القرار الانتخابي.
لم أكن قد شاهدت قبلًا فيلم “الاختراق الكبير” (The Great Hack)، الذي يتحدث عن تواطؤ بين الشركة المالكة لمنصة “فيس بوك” وشركة “كامبريدج أناليتيكا” (Cambridge Analytica) المتخصصة بجمع البيانات وتحليلها لمساعدة سياسيين وأحزاب في توجيه الرأي العام.
الفيلم يفضح تعاقدات أطاحت بالمرشحة السابقة للرئاسة الأمريكية، هيلاري كلينتون، لمصلحة الرئيس السابق، دونالد ترامب، في تشرين الثاني من عام 2016، حين جرى توجيه الناخبين الذين باعت “فيس بوك” بياناتهم لشركة ” أناليتيكا”.
لم تقف حدود التلاعب عند الانتخابات الأمريكية، ليتبين من التحقيقات أن الشركة تلاعبت بالناخب البريطاني في قضية الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست/Brexit) في 2016.
ويمتد التلاعب ليشمل الانتخابات في دول مثل التشيك، وكينيا، والهند، ونيجيريا، إذ أدارت الشركة أكثر من 200 حملة انتخابية في جميع أنحاء العالم، وفق مديرها التنفيذي، ألكسندر نيكس.
قد يصعب على شخص يعيش في ليبيا أو سوريا أو اليمن أن يصدق أنه إحدى ضحايا اللعبة، عبر ما يلتهمه من محتوى قائم على قراءة دقيقة لبياناته على “فيس بوك”، جرى تسليمها لشركة تحليل بيانات متعاقدة لمصلحة دكتاتوريات.
لقد أججت “كامبردج أناليتيكا” الكراهية العرقية في دولة “ترينداد وتوباجو”، ودفعت السود عبر حملات منظمة لمقاطعة الانتخابات لكي يكسب المتعاقدون ممن يدعمهم الهنود، وانتهت المعركة بتغيير صورة البلاد لمصلحة الجهة الأقل شعبية.
يكشف “الاختراق الكبير” أن الشركة دأبت على صناعة محتوى إعلامي بعد دراسة بيانات البشر ورغباتهم، يصعب تتبع مصدره، وجرى نشره على المنصات، ونجحت في تحقيق أهدافها مقابل المال.
إذا اعتبرنا أن اختراق إعلام التواصل الاجتماعي من قبل الشركات الفاسدة كان مدخلًا للتحكم بنا كبشر، فما يعزينا نحن الصحفيين أن أول من أبلغ عن مشروع ” أناليتيكا” هو صحفي “الجارديان” البريطانية، هاري دافيس، عبر تحقيق استقصائي نشره في كانون الأول 2015.
تبع ذلك ما نشرته الصحفية كادوالادر في “الأوبزرفر” البريطانية في آذار 2018 بعد حصولها على معلومات من الموظف السابق في “أناليتيكا”، كريستوفر ويلي، كاشفة عن التورط في “بريكست”.
ثم نشرت ثلاث صحف سلسلة مقالات متزامنة في 17 من آذار 2018، وهو ما فجر القضية شعبيًا، وتسبب بخسارة أسهم شركة “فيس بوك” أكثر من 100 مليار دولار خلال أيام، والضغط من قبل سياسيين أمريكيين وبريطانيين لإجبار الرئيس التنفيذي للشركة، مارك زوكربيرغ، على الموافقة للإدلاء بشهادته أمام لجنة في الكونجرس الأمريكي.
هل انتهت القصة؟ لا يبدو الأمر كذلك، على الرغم من الضوابط التي سنّتها عدد من الدول، ومنها دول الاتحاد الأوروبي، إذ فرضت غرامة بقيمة 1.2 مليار يورو على شركة “ميتا” المالكة لـ”فيس بوك”، بسبب نقلها بيانات مستخدمين في الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة.
وكشفت “أسوشيتد بريس”، في تموز 2018، عن نشاط شركة جديدة تدعى “داتا بروبريا” (Data Propria) التي يُديرها موظفون سابقون في “كامبريدج أناليتيكا”، تعمل على مساعدة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في حملته الرئاسية عام 2020.
تمتلك الحكومات الغربية قدرات على الحد ما أمكن من نفوذ تلك الشركات، وقدرتها على استلاب حرية الناس في خياراتهم، ومؤخرًا اتهم الاتحاد الأوروبي “ميتا” بانتهاك قانون الأسواق الرقمية الجديد، إثر ممارساتها التي من شأنها إجبار المستخدمين على دفع مبالغ مقابل عدم مشاركة بياناتهم وتتبعها.
يختلف الحال في الدول الأقل تطورًا، أو التي تحكمها قوى لا تخضع لضوابط قانونية، فبيانات ملايين البشر موجودة عند “فيس بوك”، ومنصات أخرى، ويومًا بعد يوم يكثر جامعو البيانات، وتعج “مواقع التواصل” بالذباب الإلكتروني والحسابات الوهمية والمزيفة التي تنشر محتوى قد لا يفهمه الجمهور، قد يكون صورًا أو موسيقا، أو فيديوهات عنيفة، أو تنميطًا مقصودًا.
النتيجة أننا نشهد صراعات وحروبًا لا نعرف كيف بدأت وأين ستنتهي، رعاتها يبحثون ربما عن النفوذ أو المال، وقطعًا هم ليسوا هواة أو مقدمي خدمات إنسانية.. وللحديث بقية.