عنب بلدي – علي درويش
بشكل شبه يومي، يتلقى عناصر قوات النظام بالقرب من خطوط التماس في شمال غربي سوريا أوامر بإطلاق مسيّرات “انتحارية” يتحكمون بها عن طريق أجهزة لاسلكية، ويرون هدفهم سواء كان مدنيًا أو عسكريًا قبل توجيه المسيّرة باتجاهه وتفجيرها به.
على الجانب الآخر، يسارع مدنيون بعد سماع صوت المسيّرة أو رصدها بأعينهم أو وصول تنبيه من المراصد للبحث عن أي ملجأ يحميهم من هذه المسيّرات، التي أصبحت خطرًا داهمًا جديدًا يضاف إلى مخاطر أنواع القصف الأخرى، من قذائف دقيقة بعيدة المدى أو المدفعية وراجمات الصواريخ وحمم الطائرات الحربية.
الفصائل العسكرية في المنطقة التي تنظم عملها “غرفة عمليات الفتح المبين” اتخذت أساليب “مبدئية” لصد هذه المسيّرات، بحسب ما تحدث به محللون لعنب بلدي، واستطاعت التخفيف من أثرها على تحركات عناصرها، لكن رغم الجهود المبذولة لا يزال المدنيون هم الخاسر الأكبر في هذه الهجمات.
“الفتح المبين” مسؤولة عن إدارة العمليات العسكرية في المنطقة، وتضم عددًا من الفصائل العسكرية أبرزها “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير”.
تدابير لصد الهجمات
هجمات المسيّرات “الانتحارية” تتركز بشكل أساسي في ريفي إدلب الجنوبي والشرقي وريف حماة الشمالي (سهل الغاب) وريف حلب الغربي، وبوتيرة أقل جبال اللاذقية، وجميع هذه المناطق تديرها عسكريًا “الفتح المبين”.
قوات النظام وروسيا كثفت من استخدام المسيّرات “الانتحارية” ضد مناطق المعارضة منذ بداية العام، موقعة ضحايا وخسائر بين المدنيين، أما بالنسبة للعسكريين فانخفضت وتيرة الخسائر، بحسب ما تحدث به قائد ميداني في “الفتح المبين” لعنب بلدي، إضافة إلى ما رصدته عنب بلدي من معرفات الفصائل والمقاطع المصورة التي تنشرها حسابات تتبع للنظام على وسائل التواصل الاجتماعي.
تواصلت عنب بلدي مع “الفتح المبين” للاستفسار عن التجهيزات أو التكتيكات العسكرية للغرفة لصد هجمات المسيّرات “الانتحارية” أو التقليل من أثرها، لكنها اعتذرت عدم عن الإجابة وفضلت “التكتم على المعلومات لأسباب عسكرية”.
القائد الميداني في “الفتح المبين” قال لعنب بلدي، إن “الغرفة” اتخذت بعض التدابير الأساسية، كتبديل النوبات في أوقات معيّنة لا تكون فيها مسيّرات، وفي حال كان هناك تحرك لمسيّرات لا يتنقل عناصرها في الآليات حتى خلو الأجواء.
وبالنسبة للنقاط العسكرية، جرت عمليات تحصين إضافية لكنها “دون المطلوب” بحسب القيادي، وتم وضع شباك في بعض النقاط المتقدمة لمنع وصول المسيّرة إلى الهدف.
وأضاف القيادي أن إجراءات التحصين الجديدة وطريقة الشباك كانت مجدية في مناطق الساحل، بسبب وجود كثافة في الأشجار أما في المحاور الأخرى فكان تأثيرها أقل خاصة في المناطق المكشوفة وقليلة الشجر.
وبالنسبة لوضع شباك معدنية على الآليات للحماية من المسيّرات كما أظهرت مقاطع مصورة في معارك أوكرانيا، أوضح القيادي أن هذا الأمر غير فعال بشكل كبير في شمال غربي سوريا لأن تنقل المقاتلين يجري عبر سيارات، وانفجار القذيفة سيضر بالعناصر.
المراصد العسكرية.. دور محوري
تلعب المراصد العسكرية في المنطقة دورًا رئيسًا في الحد من تأثير المسيرات الانتحارية، عبر رصدها عمليات الإطلاق ونشر التحذيرات.
وبحسب “المرصد 80” (أبو أمين) المختص برصد حركة الطيران في المنطقة، فإن المراصد تنبه وتحذر من وجود طائرات الاستطلاع الروسية (أي قبل إقلاع المسيّرات الانتحارية)، ثم تنبه وتطلق تحذيرات في حال توجهت مسيّرات انتحارية إلى منطقة معينة.
وتنصح المراصد المدنيين في المنطقة المستهدفة باستخدام بنادق الصيد لإطلاق النار على المسيّرات، وضرورة الابتعاد عن الآليات في أثناء دوران “الانتحارية” بالجو، وتخفيف التنقلات.
وفي المناطق القريبة من نقاط التماس، تنصح المراصد السكان بضرورة التنقل ليلًا، لأن المسيّرات “الانتحارية” المستخدمة حاليًا لا تستطيع شن هجمات ليلية، وأن تكون تحركاتهم ضمن الأودية والمناطق المنخفضة، لأن هذه الأماكن تقطع إشارة “الانتحارية”.
كما توصي المراصد بعدم توجه المدنيين مباشرة للمكان المستهدف، لأن النظام يعتمد على إطلاق سرب من المسيّرات على مكان محدد.
حلول عسكرية
العميد الطيار أسعد الزعبي يرى أنه قبل تنفيذ أي تكتيكات عسكرية على الأرض، يجب على مهندسي الاتصالات في شمال غربي سوريا والعاملين في مجال الاتصالات اللاسلكية العسكرية والمدنية معرفة ترددات عمل الطائرات المسيّرة، سواء تردد الاتصال بين مراكز العمليات ونقاط الإطلاق، أو تردد الطائرات المسيّرة خلال تحليقها.
وقال الزعبي لعنب بلدي، إن مهندسي الاتصالات والعاملين في هذا المجال هم الأقدر على معرفة ترددات عمل المسيّرات وعلى أي موجة تعمل، وحينها يمكن معرفة مدى قدرتهم على التشويش.
ومن المفترض أيضًا أن يكون هناك مجموعة من المهندسين العارفين بتركيبة الطائرة وطريقة عملها من ناحية المسافة.
وأول مرحلة في التكتيك العسكري وأفضلها، بحسب العميد أسعد الزعبي، ضرب الطائرات في مكانها، أي استهداف نقاط إطلاقها، منتقدًا النظرة الضيقة للفصائل حول الأمر.
وبحسب تعبير الزعبي، “يبدو أنه ليس لديهم أدوات الاستطلاع الكافية للمراقبة والمناورة القتالية التي تستطيع أن تحدد مساحة أفقية محددة، بحيث إن أي حركة بالطرف الآخر أو أي قذيفة قد تخرج أو طائرة مسيّرة، من المفترض أن أعرف مكان خروجها على الأقل حتى أعالج هذا المكان في رماية مباشرة، وهذا وارد في العلم العسكري وبهذا يكون لي رد على هذه الرماية”.
وتنشر “الفتح المبين” مقاطع مصورة لاستهدف نقاط تمركز قوات النظام بالمدفعية والصواريخ، وتكثر هذه المقاطع بعد عمليات استهداف النظام وحلفائه لمناطق سيطرة المعارضة.
وأشار الزعبي إلى استخدام بنادق الصيد لصد هجمات المسيّرات، مؤكدًا أهمية تكثيف استخدام هذه الطريقة، وإطلاق النار بأكثر من بندقية صيد لتشكيل “سد ناري” أمام المسيرات، ورفع احتمالية إصابة الكرات المعدنية الصغيرة المندفعة من فوهة البندقية للمسيرة.
طريقة “السد الناري” استخدمها الجيش العراقي لصد هجمات أسراب طائرات التحالف الأمريكي عام 1991، بنشر عدد كبير من مضادات الطيران وإطلاق النار بغزارة في سماء بغداد وباقي المدن العراقية رغم أن المضادات لا ترى الطائرات، لكن ذلك يرفع نسبة احتمالية اصطدام الطلقات بجسم الطائرة إلى 20%.
وأشار الزعبي إلى أنه في مناطق شمال غربي سوريا لا يمكن نشر عدد من الرشاشات للتعامل مع المسيّرات، فهي تحتاج إلى آلية لا تتوفر في المنطقة، لكن بنادق الصيد تعطي نوعًا من “السد الناري” وترفع احتمال نسبة الإصابة.
وكلما زاد عدد بنادق الصيد كانت مساحة “السد الناري” أكبر، لكن مدنيين قالوا لعنب بلدي في وقت سابق، إنهم يحتاجون إلى اهتمام أكبر من قبل سلطات الأمر الواقع، وذلك عبر تأمين طلقات لبنادق الصيد.
وتداول ناشطون مقاطع مصوّرة لمدنيين يستهدفون المسيّرات قبل انفجارها ببنادق صيد (بمبكشن)، قالوا إنها كانت فعالة في بعض الأحيان ومنعت المسيّرات من وصولها إلى هدفها، وذلك بعد رصدها أو سماع تحذيرات المراصد.
لكن هذه المسيّرات أحيانًا تكون مجتمعة (2 أو 3 أو 4 طائرات في مكان واحد)، وبالتالي تحتاج لكم أكبر من البنادق وغزارة نارية أكبر.
تكتيك آخر تحدث عنه الزعبي، بإنشاء أعمدة ووصل شباك فيما بينها تغطي مكان الجلوس أو النقطة العسكرية أو مكان الاجتماع، وفي حال اقتربت الطائرة من الممكن أن تصطدم في الشباك، إما تفجر أو تعلق فيها، أو وضع شبك مثل شبك الصيد يمكن أن يرتفع من الأرض بطريقة ميكانيكية في حال اقتربت.
ونوه الزعبي إلى أن التكتيكات التي ذكرها هي مبدئية حتى التعرف على ترددات المسيّرات أو الحصول على أجهزة يمكن الاسترشاد فيها، “هذه الإجراءات لا أقول إنها تفي بالغرض إلا أنها تخفف قدر الإمكان الخسائر”.
في حال كان هناك متخصصون في الاتصالات اللاسلكية، من الممكن أن يولدوا إشارات تتناسب أو تتوافق مع ترددات الطائرة ويشوشوا عليها ويلغوا هجومها وتفجيرها.
الباحث المختص في الطائرات المسيرة علي السلوم قال لعنب بلدي، إنه يجب تطوير أنظمة دفاعية مضادة للطائرات المسيّرة أو الحصول على أنظمة دفاعية تعتمد على التشويش الإلكتروني أو الهجمات المضادة للطائرات المسيرة المعادية.
التطوير.. خطر مقبل
حذر الرائد الطيار يوسف حمود، في حديث لعنب بلدي، من خطورة تطوير النظام للمسيّرات “الانتحارية” بحيث تصبح تضرب في مناطق أكثر عمقًا، مشيرًا إلى أن ما يفعله النظام وروسيا اليوم هي عمليات تجربة كون العمليات العسكرية البرية متوقفة.
“المرصد 80” أوضح أن إطلاق المسيّرات الانتحارية يتم من دشم ونقاط تمركز قوات النظام الأمامية على خطوط التماس مع فصائل المعارضة.
الكتائب العسكرية المشغلة والمطلقة لهذه المسيّرات قرب خطوط التماس تتبع لقوات النظام وهي “الحرس الجمهوري” و”الفيلق الخامس” و”الفرقة-25″، وهذه المجموعات العسكرية مقربة من الروس أو تتلقى دعمًا مباشرًا منها، فـ”الفيلق الخامس” شكّلته روسيا، ولا يخفى دعم الروس لـ”الفرقة-25″ خاصة من ناحية التدريبات العسكرية، ومنها التدريب على المسيّرات.
مطلقو الطائرات يتلقون الأوامر من غرف العمليات المشتركة بين الروس وقوات النظام، منها غرفتا العمليات في قرية كفر حلب وفي قرية البوابية بريف حلب الغربي، وتعتبر قريتا كفر حلب وميزناز و”الفوج 46″ من النقاط الرئيسة للاستهداف بحسب “المرصد 80”.
ويسبق إطلاق “الانتحارية” عمليات استطلاع تجريها طائرة دون طيار روسية.
ويصل عمق استهداف المسيرات “الانتحارية” إلى تسعة كيلومترات، وهناك نوعان منها، الأول مداه ثلاثة كيلومترات ونصف، والثانية يصل مداه إلى تسعة كيلومترات، وحاليًا يتم العمل في غرف التصنيع على أن يصل مداه إلى 11 أو 12 كيلومترًا، بحسب “المرصد”.
الطائرات المسيّرة التي يستخدمها النظام لها عدة أنواع، منها ما هو مصنع أو معدّل أو مجمع محليًا، كما تختلف الذخائر التي تحملها بحسب الهدف (سيارة، دشم، بيت محصن، مشاة)، والمسيرات محمّلة بقذائف فراغية أو محشوة بالـ”TNT” ومواد متفجرة أخرى كـ”C4″.
ألعاب الموت
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” نوار شعبان، قال إنه يجب تطبيق قواعد عالمية أكثر صرامة على بيع وتعديل الطائرات دون طيار التجارية لمنع إساءة استخدامها، وتعزيز آليات المراقبة والإنفاذ للكشف عن التعديل والنشر غير القانوني للطائرات دون طيار في مناطق الصراع وتعطيلها.
شعبان كشف في تقرير سابق له استخدام النظام والميليشيات الإيرانية طائرات دون طيار ترفيهية مصنعة في الصين وهونج كونج متاحة تجاريًا كأسلحة فتاكة، بعد تعديلها، كطائرات “iFlight XL10 V6″ و”BS Discovery”.
تتضمن التعديلات سعة حمولة محسنة (تعزيز قدرة الحمولة) وآليات استهداف (ودمج الأجهزة المتفجرة وأنظمة التوجيه وقدرات التفجير عن بعد)، ما يسمح توجيه هجمات دقيقة.
ويحصل النظام والميليشيات الإيرانية على هذه الأنواع عبر وسائل مختلفة، منها الشراء عبر الإنترنت والتهريب.
حسن الحسان، مسؤول في “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء)، أكد في حديث سابق لعنب بلدي أن الحد من تأثير المسيّرات يمكن بطريقة واحدة هي المحاسبة، وفقط المحاسبة قادرة على الحد من تأثير المسيّرات.
وقال الحسان لعنب بلدي، إنه “لا يمكن للسكان مواجهة أدوات القتل، والطائرات الانتحارية المسيّرة هي نهج خطير بالهجمات”.
والاحتماء أحيانًا سيكون غير مجدٍ، ففرق “الدفاع المدني” وثقت هجمات مسيّرات لاحقت الضحايا إلى داخل غرف منازلهم.
لذلك، هناك حاجة ملحة لأن تتعاون الدول وتضع لوائح ومبادئ توجيهية واضحة فيما يتعلق باستخدام المسيّرات الانتحارية في “النزاعات المسلحة”، بالإضافة إلى منع تطوير قدرات الاستهداف الذاتي، بحسب المسؤول في “الدفاع المدني”.
ويجب على الدول أن تضمن امتثال إجراءاتها للالتزامات القانونية الدولية، ولا سيما تلك المنصوص عليها في القانون الإنساني الدولي، للتخفيف من المخاطر التي تشكلها هذه الأسلحة ودعم حماية المدنيين.