عنب بلدي – خاص
تزداد مأساة المرحّلين قسرًا من تركيا إلى مدينة تل أبيض شمال غربي الرقة، بعد معرفتهم أنهم وقّعوا على أوراق ترحيلهم مرفقة بوجود “أكواد أمنية” على ملفاتهم، تمنعهم من الدخول إلى تركيا بشكل دائم، وأخطرها أكواد متعلقة بـ”تهديد الأمن القومي والإرهاب”.
في المدينة الحدودية التي تسيطر عليها “الحكومة المؤقتة”، يواجه المرحّلون من تركيا ظروفًا معيشية صعبة، يضاف إليها حالات نصب يتعرضون لها خلال محاولتهم الخروج من تلك البقعة الجغرافية المحاصرة، خاصة إذا لم يكونوا من أبنائها.
كانت عملية الترحيل نقطة فارقة في حياة العشرات، وأعادت بعضهم إلى “تحت الصفر”، دون أن تشفع لهم أوراقهم الثبوتية من بطاقة “الحماية المؤقتة” أو تصريح العمل، رغم بقاء بعضهم لسنوات في تركيا، ورغبتهم بحالة استقرار، ولو مؤقتة، لهم ولعائلاتهم.
ممنوع من العودة
بعد أن عاش “محمد” (اسم مستعار لأسباب أمنية) أكثر من ثماني سنوات في تركيا دون أن يرتكب أي مخالفة، حسب قوله، وجد نفسه متهمًا بـ”الإرهاب”، وتعرض للضرب حتى أُجبر على التوقيع على مستندات لم يفهم محتواها، ثم تم ترحيله إلى مدينة تل أبيض.
قال الشاب المنحدر من مدينة حمص، إن خلافًا بينه وبين صاحب المعمل الذي كان يعمل فيه أدى إلى ترحيله لمدينة تل أبيض، ولا يستطيع العودة إلى تركيا بسبب وضع “كود الإرهاب” المعروف بـ”G-87″ على ملفه، وهو ما يمنعه من دخول تركيا بشكل دائم.
قال الشاب لعنب بلدي، إن عائلته وأطفاله لا يزالون في تركيا، ولا يعرف أين ومتى وكيف سيجتمع معهم مرة أخرى، فهو يعيش حاليًا ظروفًا صعبة، حيث لا توجد أي فرص للعمل في تل أبيض.
عبد الكريم، شاب آخر جرى ترحيله قسرًا من تركيا إلى تل أبيض دون أي سبب قانوني واضح، وقال لعنب بلدي، إنه كان يقيم مع عائلته في مرسين منذ عام 2015، وبعد أن ذهبوا لتحديث بياناتهم، حُجزوا في مركز الهجرة لأكثر من شهر، حيث أُجبروا على التوقيع على أوراق “العودة الطوعية”.
بعد ذلك، انتبه عبد الكريم إلى وجود “كود الإرهاب” على أوراق كل أفراد عائلته، مشيرًا إلى أنه يعيش حاليًا في تل أبيض مع عائلته في مدرسة تفتقر إلى معظم الخدمات الأساسية.
وذكر أنه يواجه صعوبات في تأمين أبسط احتياجات العائلة، وكذلك يغيب عنه أي دعم من جهات محلية وإنسانية.
ما “كود G-87″؟
“الكود G-87” هو رمز تقييد يمنع الأجانب من دخول تركيا إلى أجل غير مسمى، ومن الناحية العملية، يُعرف باسم قانون “الأمن العام”، بينما تحدد الجهات المختصة المواقف والعبارات التي تعتبر تهديدًا للأمن العام.
ويُفرض قانون التقييد “G-87″ من قبل المديرية العامة لإدارة الهجرة وموظفي الحدود والسلطات الأخرى ذات الصلة نتيجة للاشتباه في أن الأجنبي يشكل تهديدًا للأمن العام لتركيا.
ويجب العثور على أدلة ملموسة حتى يرحّل أي أجنبي يحمل الرمز”G-87” أو يمنع من دخول تركيا إلى أجل غير مسمى، وفي هذه الحالة، تُطلب بعض المستندات والتقارير الاستخباراتية في القضية.
ومع ذلك، يُلاحظ أن الأجانب يُرحّلون بناء على شكوك لا تستند إلى أدلة ملموسة، وفي هذه الحالة يجب إزالة “الكود” باتخاذ الإجراءات القانونية، وذلك وفق بيانات قانونية تنشرها شركات حقوقية تركية.
استغلال ونصب
بحسب رصد عنب بلدي، فإن العديد من الأشخاص المرتبطين بفصائل “الجيش الوطني السوري” يستغلون المرحّلين من تركيا، إذ يقنعونهم عند المعبر أنهم سينقلونهم إلى مناطق الداخل السوري أو الشمال السوري.
ويفرض هؤلاء الأشخاص مبالغ مرتفعة على عمليات العبور إلى هذه المناطق، ويقع البعض ضحية عمليات نصب أو ابتزاز مالي من خلال طلب مبالغ إضافية على المتفق عليها.
“سعيد” اسم مستعار لشاب رحّلته السلطات التركية إلى تل أبيض، قال لعنب بلدي، إنه تعرض لتهديدات فور وصوله إلى الأراضي السورية من قبل عناصر الفصيل مفادها اعتقاله أو اختطافه إذا كانت لديه قضايا أو مخالفات في تركيا.
وأوضح أنه بعد تلقي هذه التهديدات، عرضوا عليه نقله إلى “مهرّب” تابع لهم، وطلب منه دفع مبلغ 500 دولار أمريكي، لنقله من منطقة تل أبيض إلى جرابلس بريف حلب، التي تخضع لسيطرة “الجيش الوطني” أيضًا.
وأضاف أنه دفع 300 دولار من أصل 500 دولار المطلوبة، لكن المهرّب لم يؤمّن عبوره، وتركه في منطقة تل أبيض، ولم يُرجع له المبلغ، مستفيدًا من سطوته الأمنية، ولا يزال الشاب متروكًا لقدره ينتظر أي حل لنقله.
إبراهيم، شاب مرحّل إلى تل أبيض أيضًا، وهي منطقة لم يكن يعرفها مسبقًا، فهو ينحدر من مدينة الباب بريف حلب الشرقي.
وقال إبراهيم، لعنب بلدي، إن عناصر يتبعون لفصيل “الجبهة الشامية” أوقفوه عند بوابة معبر “تل أبيض” وطلبوا منه مبلغ 500 دولار مقابل تأمين نقله إلى مدينة الباب.
وأضاف أنه دفع المبلغ، لكن بدلًا من أن يُعاد إلى الباب، تُرك في منطقة مجهولة بالقرب من تل أبيض دون أي مساعدة.
وأشار إلى أنه لا يزال عالقًا في تل أبيض، وغير قادر على العودة إلى مدينته أو استعادة أمواله، ويعاني من ظروف صعبة، فهو بلا عمل أو دعم للوصول إلى عائلته في مدينة الباب.
تواصلت عنب بلدي مع المكتب الإعلامي في “الجبهة الشامية” للحصول على رد حول هذه الاتهامات، لكنها لم تتلقَّ ردًا حتى لحظة نشر هذا التقرير.
ترحيل مستمر
تشهد المعابر الحدودية مع تركيا حركة عبور يومية لسوريين مرحّلين قسرًا من “باب الهوى” و”باب السلامة” و”تل أبيض” و”جرابلس”.
وتعد عمليات الترحيل مخالفة للقانون الدولي وقانون “الحماية المؤقتة” الذي يخضع له السوري في تركيا.
في المقابل، تنفي الحكومة التركية وجود عمليات ترحيل قسري، وتصف سياستها بـ”النموذجية” في التعامل مع اللاجئين.
وبلغ عدد السوريين في تركيا المقيمين تحت “الحماية المؤقتة” ثلاثة ملايين و95 ألفًا و39 شخصًا، بحسب أحدث إحصائية صادرة عن رئاسة الهجرة التركية، في 5 من أيلول الحالي.
مصدر في معبر “تل أبيض” (طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية)، قال لعنب بلدي، إن عدد العائدين من تركيا إلى سوريا منذ آب الماضي وحتى 6 من أيلول الحالي، بلغ 2120 شخصًا، من بينهم 730 شخصًا تم ترحيلهم قسرًا.
وتتحفظ بعض المعابر الحدودية مع تركيا، ومنها “تل أبيض”، على ذكر مفردات “ترحيل” أو “إعادة قسرية”، ويُدرج المرحّلون تحت بند “العائدين طوعًا”، رغم اقتياد السلطات التركية هؤلاء الأشخاص وتسليمهم إلى سلطات المعبر.
ويبلغ عدد سكان مدينة تل أبيض 138 ألفًا و465 شخصًا، ويعيش غالبيتهم أوضاعًا مادية صعبة بسبب قلة فرص العمل، ويعتمد أغلب السكان على الزراعة والثروة الحيوانية.
وفي عام 2019، سيطرت تركيا و”الجيش الوطني” على كامل مدينة تل أبيض وريفها الشرقي، بالإضافة إلى جزء من ريفها الجنوبي حتى حدود الطريق الدولي “M4″، وجزء من الريف الغربي لمسافة تصل إلى 15 كيلومترًا، وذلك في إطار عملية تركيا العسكرية “نبع السلام”.
دعم محدود للمرحّلين
بعد سنوات من العمل داخل تركيا، وجد المرحّلون أنفسهم في واقع هش اقتصاديًا ومعيشيًا، دون مساعدات أو جهات ترعاهم.
وليد الجميلي، إداري بمنظمة “الرشيد” الإنسانية في تل أبيض، قال إن العديد من السوريين المرحّلين إلى منطقة تل أبيض يعانون من ظروف قاسية وصعبة، وإن المنظمة بذلت كل جهدها لتقديم الدعم رغم محدودية الموارد المتاحة.
وأضاف، لعنب بلدي، أن المنظمة قدمت مبالغ للمرحّلين على دفعات، ورغم ذلك، فإن هذه المبالغ لا تكفي لتلبية جميع احتياجاتهم، بسبب الزيادة المستمرة في عمليات الترحيل.
وذكر أن المنظمة قدّمت خلال شهر رمضان (نيسان الماضي) وجبات إفطار يومية ضمن “مطبخ الرشيد الخيري”، بالإضافة إلى دعم إضافي يشمل سلال نظافة وسلالًا غذائية.
وأشار إلى أن الترحيل لا يزال مستمرًا، بينما تواصل المنظمة تقديم ما تستطيع لتخفيف معاناة هؤلاء الأشخاص في ظل الظروف الصعبة التي يواجهونها، وذلك ضمن الإمكانيات المتوفرة.