كيف يواجه بشار الأسد كل هذه الضغوط النفسية؟

  • 2024/09/15
  • 1:01 م
أحمد العسيلي

أحمد عسيلي

خرج علينا منذ عدة أسابيع بشار الأسد ليلقي كالمعتاد خطابًا أمام مجلس الشعب الجديد، أعضاء المجلس يجلسون كالعادة بكل هدوء وانتظام، جاهزون دومًا للتصفيق حين تأتيهم الإشارة، أو الابتسام كلما ألقى بشار إحدى نكاته البلهاء، تحدث هذا المخلوق كعادته تمامًا، وألقى مواعظه ودروسه الأخلاقية، لا شيء تغير أبدًا، نفس السماجة وتفاهة الشخصية، لا ملامح لقلق شديد أو اكتئاب حاد، لا يبدو عليه أنه منذ عدة أسابيع فقط فقد شخصًا كان مقربًا إليه كثيرًا ومستشارًا إعلاميًا له منذ سنوات عديدة (لونا الشبل)، لا يبدو عليه أن زوجته تعاني من السرطان وتخضع لعلاج وعزل طبي (حسب روايته ذاتها)، من علامات وجهه نستطيع القول إنه ينام بشكل معقول، ربما خسر القليل من وزنه، لكن صحته تبدو نوعًا ما مستقرة، لا رجفان في يديه ولا مشيته، إذًا، كل شيء على ما يرام، حتى لو ظاهريًا.

ربما لا نعرف الكثير عن حياته الشخصية، ولا نستطيع أن نعرف بالتأكيد، لأنها محاطة بسرية تامة، لكن نستطيع أن نخمن أنها تسير كالمعتاد، فمن خلال “الإيميلات” التي سُربت بداية الثورة، كان يستمع للأغاني ويشتري الأسطوانات عبر الإنترنت، زوجته أيضًا تتسوق عبر الإنترنت لقصر يملكونه في دبي.

وربما يخطر ببالنا هنا سؤال: ألا يتعب هذا الشخص أو يصاب بالإرهاق؟ ألا يحزن أو يفرح أو يتوتر مثل بقية البشر؟ ألا يصاب بالاحتراق الوظيفي ويرغب في ترك كل شيء والرحيل؟ ألا يصاب بقلة النوم أو بالنعاس المستمر؟

لنترك بشار الأسد جانبًا الآن، ولنحاول أن نلقي نظرة على غيره من دكتاتوريي العالم العربي، أيضًا لا أحد منهم قد سبق وشاهدنا عليه أي إشارة للتعب أو الإرهاق أو الحزن، بل يبدو أن هذا الهدوء هو سمة عامة لجميعهم، فصدام مثلًا كان هادئًا جدًا حتى وهو يصعد إلى المشنقة، ولا أعتقد أنه مشهد تمثيلي أو معدّ للإعلام، لأنه كان يعيش لحظاته الأخيرة، ولا يعرف أصلًا أن أحدًا ما يقوم بتصويره، كذلك القذافي، حين ألقي عليه القبض، سأل: “شو فيه؟”، وكأنه فعلًا لا يدري “شو فيه” بعد كل ما فعله في ليبيا والمليارات التي سرقها هو وأولاده والآلاف الذين قتلهم.

دعونا أيضًا نخرج من الإطار العربي إلى دكتاتوريي بقية دول العالم، امرأة تشوشسكو كانت هادئة جدًا حين ألقي القبض عليها، بل عاتبت من ضيّق عليها الحبل وقالت له: “أنا مثل أمك”. ماري أنطوانيت ولويس السادس عشر لم يسجل أبدًا أنهما بكيا مثلًا أو كانا بحالة قلق وتوتر عند المقصلة. حتى أنت يا بروتوس قالها يوليوس قيصر بكل وضوح وهدوء، لا يبدو أن لسانه جمد أو فقد القدرة على الكلام حتى حينما اكتشف أنه تعرض لأقصى أشكال الخيانة.

عبر التاريخ كله، كل الحكام كانوا وبشكل دائم متماسكين وهادئين، يقومون بعملهم بكل سلاسة مهما كان مستوى إجرامهم، لا تأنيب ضمير، ولا أي تراجع أو إحساس بالندم، حتى اشوكا، ذلك الحاكم الذي قتل عشرات الآلاف وهدم مدنًا وبيوتًا، فقرر التوبة وتغيير أسلوب حكمه، لم يرهق نفسيًا ويترك الحكم هائمًا على وجهه بعد كل ما فعله، أصبح فعلًا بعدها حاكم سلام (أو هكذا سجل التاريخ على الأقل)، لكنه بقي هو الحاكم، وهو الآمر الناهي، ولم يفكر يومًا أن يترك منصبه ويستريح، في كل التاريخ (حسب علمي) هناك حاكم واحد فقط ترك الحكم لأسباب نفسية، وهو مراد الثاني، الذي يقال إنه شعر بالتعب والإرهاق بعد كل الغزوات التي قام بها والحروب التي شنها، فترك العرش لابنه الشاب محمد الفاتح، لكنه قرار أيضًا سرعان ما تراجع عنه وعاد إلى الحكم مرة أخرى، للسيطرة على الانكشاريين، ويبدو أن حالته النفسية كانت تسمح له بالعودة للحكم ولم يصل تعبه لدرجة تعوقه عن تلك العودة، حتى ملك فرنسا شارل السادس، أو ما يعرف بشارل المجنون، بقي في الحكم وأدى جميع واجباته، رغم أنه كان مصابًا باضطراب ثنائي القطب، وهو اضطراب منشؤه عضوي أكثر منه نفسي، لكن حتى مع وجود هذا الاضطراب استطاع السيطرة والاستمرار في الحكم.

فكيف نفسر نفسيًا كل هذا؟

بالتأكيد ليس لدي تشخيص أكيد 100%، لأني لم أفحص أي دكتاتور سابق بشكل عيادي ومنهجي، لكن من خلال ما توفر لدينا من تسريبات، وشهادات لمن عاصرهم من أطباء ومسؤولين، أستطيع القول مع بعض المجازفة، إن السلطة تصيب الإنسان بنوع من “الجذام النفسي”، فمريض الجذام يصاب بحالة عصبية حسية يفقد بها الإحساس بما حوله، يصبح جلده غير قابل لتلقي المنبهات، كأنه معزول من الناحية الحسية عما حوله، هي حالة طبية تصيب مرضى الجذام، وكأن للنفسية أيضًا جزامها، فيتحول الإنسان رغم قواه العقلية الطبيعية، لكنه يعيش دون أن تتأثر أحاسيسه بما يجري حوله من حزن أو فرح.

حالة أدركناها وأصبحنا واعين لها عند بعض الناس منذ وصفها الطبيب النفسي البريطاني ستيفن غروزس في كتابه “اختبارات الوعي”، فهي ليست فصامًا، لأن الشخص واعٍ تمامًا وعلاقته طبيعية بالمحيط، لكنه فعلًا منفصل بالإحساس مثل مريض الجذام تمامًا، هو جزام نفسي إذًا، وإذا أردنا أن نعود إلى سؤال العنوان، نقول إنه يعيش كل هذه الضغوط النفسية والكوارث والفقدان بكل هدوء، ببساطة لأنه غالبًا لا يشعر بها أبدًا.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي