درعا.. “ستاتيكو” رغم تبدلات السيطرة

  • 2024/09/08
  • 1:52 م
مدنيون ومقاتلون محليون خلال صلح عشائري في بلدة محجة شمالي درعا- 13 من شباط 2024 (bosra press/ فيس بوك)

مدنيون ومقاتلون محليون خلال صلح عشائري في بلدة محجة شمالي درعا- 13 من شباط 2024 (bosra press/ فيس بوك)

خالد الجرعتلي | حسن إبراهيم | حليم محمد

شكّل الجنوب السوري وخاصة مدينة درعا التي تقع عند المثلث الحدودي مع الأردن وإسرائيل ساحة لتنافس قوى إقليمية ودولية عديدة، لم تخبُ فيها نار التصعيد منذ 13 عامًا، عندما انطلقت منها شرارة الثورة السورية، وبقيت حالة التوتر جمرًا متقدًا تحت رماد اتفاقيات و”تسويات” مع وجود نقاط عسكرية لقوى وفصائل بتبعيات مختلفة.

ورغم أن المنطقة تعتبر ضمنيًا تحت سيطرة النظام، فإن تفاصيل كثيرة تناقض هذا الاعتبار، خصوصًا مع تكرار الاستهدافات لقواته، وانتشار المجموعات العسكرية المحلية في قرى وبلدات ومدن درعا، تدير كل منها منطقتها وتنسق فيما بينها، في وقت يعجز فيه النظام عن دخول أي من تلك المناطق دون إخطار فصائلها المحلية ووجهائها.

ولا تعتبر المشكلة داخلية بحتة، إذ نما تأثير الفواعل الدولية في المنطقة، وصارت تنسب العديد من التحولات للتدخلات الروسية، في حين تركت إيران أثرًا على صعيد الوضع الأمني فيها، ولا يمكن تجاهل الدور السابق للولايات المتحدة والأردن، إذ كانت فصائل المنطقة مدعومة دوليًا عبر غرفة تنسيق الدعم (موك)، ورغم انتهاء عمل هذه الغرفة، فإن وجود المحافظة على الحدود الجنوبية وبالقرب من القاعدة الأمريكية في “التنف” يجعلها ضمن اهتمامات الدولتين، وربما اهتمامات إسرائيل القلقة من تمدد إيران نحو الحدود.

اليوم، ومع مرور ست سنوات على أول “تسوية” دخلت بموجبها قوات النظام لدرعا، لا تزال المحافظة خارج سيطرتها، نسبيًا، إذ تنتشر فيها فصائل مسلحة عديدة، منها ما يتبع إداريًا إلى شعبة “المخابرات العسكرية” (الأمن العسكري) وأجهزة أمنية أخرى تابعة للنظام، ومنها ما يعارض النظام.

وتعيش المحافظة الجنوبية حالة “ستاتيكو” (جمود)، لا ترغب قوى خارجية بتغييره، في ضوء صراعات على المستوى الإقليمي والدولي، يتأثر بها الداخل السوري، وعلى وجه الخصوص درعا التي تقع على الحدود الجنوبية مع إسرائيل والأردن، وتشكل خاصرة رخوة يمكن النفاذ عبرها لخلخلة الأمن فيهما.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف، مراحل تطور الأوضاع الأمنية في محافظة درعا جنوبي سوريا مرورًا بتسويتين أمنيتين كبريين، وأحداث أمنية غيرت من شكل الصراع الداخلي فيها، وحجمت بعض الفصائل على حساب أخرى.

مراقبون وخبراء وقادة عسكريون يقيمون في درعا، يعتقدون اليوم، نظرًا إلى سياق الأحداث، أن مستقبل المنطقة يشي بصعوبات مستمرة وعدم استقرار، في ظل حالة التوتر الأمني التي لم تنقطع منذ سنوات.

محتجون ومقاتلون محليون يقطعون الطريق بمدينة نوى غربي درعا ويطالبون بإسقاط النظام السوري- 19 من آب 2023 (تجمع أحرار حوران)

سنوات غيرت شكل السيطرة

أجرى النظام السوري “تسويات” عديدة في درعا، أبرزها في تموز 2018، أفضت إلى سيطرة النظام على الجنوب السوري مقابل عدة بنود تعهد الجانب الروسي تنفيذها منها إلغاء المطالب الأمنية، وسحب القوات العسكرية للثكنات، والإفراج عن المعتقلين، وعودة الموظفين المفصولين لعملهم، لكن هذه البنود بقيت رهينة لمماطلة النظام، ولم يبدِ الجانب الروسي جدّية في الضغط لتطبيقها.

أحد الأعضاء الفاعلين في “اللجنة المركزية” بريف درعا الغربي قال لعنب بلدي، إنه بعد سيطرة النظام حاول استمالة الوجهاء ورؤساء البلديات وبعض الشخصيات التي كانت محسوبة على حزب “البعث” سابقًا، لكن هذه المكونات فشلت في إحداث أثر، ما دفع أبناء قرى وبلدات في درعا للقبول بـ”اللجنة المركزية” كبديل عن النظام على صعد عدة، منها الأمن والقضاء.

 

لطالما حاول النظام استمالة وجهاء، وأعضاء حزبيين سابقين بعد “التسوية”، لتصديرهم على أنهم يمثلون المنطقة، ليشكل مدخلًا للمجتمع المحلي، لكن خطته لم تنجح، ولم يتمكن هؤلاء الوجهاء من التأثير على أبناء المحافظة.

أحد الأعضاء الفاعلين في “اللجنة المركزية” غربي درعا

 

عضو “اللجنة” الذي فضل عدم الإشارة إلى اسمه لأسباب أمنية، أضاف أن “اللجان المركزية” لم تنسق مع النظام، ولم تكن لها تبعية فصائلية، علمًا أن فصائل مسلحة تنضوي تحتها، مشيرًا إلى أنها فضلت العمل بطريقة تعاونية فيما بينها، وفوضت أشخاصًا محددين للتعاطي مع النظام.

وأشار إلى أن منطقة “قطاع اللجنة المركزية في الريف الغربي” تضم ما يقارب 400 ألف نسمة، تربط غالبيتهم علاقة قرابة في المناطق التي يسيطر عليها النظام بشكل كامل كمدينة إزرع مثلًا، ونظرًا إلى تنقل المدنيين بين قرى ومدن المحافظة، ينشأ احتكاك مباشر بين “اللجان” والنظام، لغايات خدمية وأمنية.

وقال عضو “اللجنة”، إن الأخيرة أسهمت في الإفراج عما يقارب 1000 معتقل من سجون النظام السوري، معظمهم اعتقلوا خلال فترات زمنية قريبة.

وفي مدينة درعا البلد، تركت “التسوية” “لجنة مركزية” ذات ثقل في المحافظة، كان لها دور في الإفراج عن المعتقلين وتنظيم الخدمات العامة، وحل المشكلات بين السكان، وتنظيم المظاهرات ضد النظام، لكن هذا الحال لم يدم طويلًا.

سنوات مرت على إدارة “اللجنة المركزية” لدرعا البلد، تخللتها مشكلات عديدة، ومفاوضات متكررة مع القوات الروسية النافذة في درعا، حتى تموز 2021، عندما أطلق النظام السوري حملة عسكرية واسعة ضد فصائل تتمركز في المدينة.

وفرض النظام حينها حصارًا على المدينة وحاول اقتحامها، لكن “اللجنة المركزية” والفصائل العسكرية المحلية، وبدعم من فصائل محلية أخرى في درعا، صمدت لنحو ثلاثة أشهر، انتهت بـ”تسوية” جديدة، وبرز اسم “اللجنة المركزية” فيها كطرف فاوض النظام والروس، وأنهى الحصار بأقل الخسائر.

ومع مرور الوقت، أعلنت “اللجنة المركزية” حلّ نفسها، وتركت مهمة إدارة المنطقة والانخراط في المفاوضات لما صار يعرف اليوم باسم “مجلس عشائر درعا البلد”.

عضو سابق في “مركزية” درعا البلد قال لعنب بلدي، إن حصار قوات النظام للمدينة أنتج مرحلة جديدة، أفرزت قوة مجتمعية نظمت المدينة وساقتها إلى الانضباط الأمني، إذ تعتبر المدينة شبه خالية من حالات السرقة، والجرائم الجنائية، في حين يعشعش الفلتان الأمني في الأحياء التي يسيطر عليها النظام من مدينة درعا، ولا تغيب عنها عمليات السرقة والسلب والنهب.

وأضاف المصدر الذي تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية، أن وجهاء وأعيان درعا البلد أرادوا حصر نشاطهم في درعا البلد، وإعطاءه صفة عشائرية عبر تمثيل جميع المكونات، على عكس “لجنة” الريف الغربي و”اللواء الثامن” اللذين توسع نشاطهما ليشمل مناطق بعيدة عن أماكن تمركزهما.

ووفق المصدر، فإن المجتمع المحلي يدعم “مجلس عشائر درعا” الذي استطاع محاربة تجارة المخدرات وحقق نتائج إيجابية في هذا المجال، مشيرًا إلى أن “المجلس” يتدخل على الأرض في حال اعتقل النظام أي شخص من المدينة، ويكون التدخل أكبر في حال كانت المعتقلة سيدة.

“اللواء الثامن” يحكم بالقوة

بعد “تسوية” تموز عام 2018، حافظ “اللواء الثامن”، وهو امتداد لفصيل “فرقة شباب السنة” المعارضة، على سلاحه المتوسط والفردي، وسلم سلاحه الثقيل من دبابات وعربات مدرعة لقوات النظام وروسيا.

استمالت روسيا فصيل “شباب السنة” عقب “التسوية”، واستطاعت ضمه إلى “الفيلق الخامس” المشكّل روسيًا عام 2016، وأطلقت عليه اسم “اللواء الثامن”، لكنها استمرت بدعمه حتى نهاية 2021، وكانت خلال تلك الفترة تمنح العنصر في “اللواء” راتب 200 دولار فضلًا عن كتل مالية للدعم اللوجستي، ما أدى إلى تنامي قوته العسكرية في المحافظة.

وفي مطلع 2022، تراجع الدعم الروسي للفصيل، وأتبع قيادته لشعبة “المخابرات العسكرية”، وتوقف الدعم المالي الروسي عنه، وفق ما قاله قيادي بارز في “اللواء” لعنب بلدي.

القيادي الذي تحدث لعنب بلدي بشرط عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، قال إن الواقع فرض على “اللواء الثامن” التعامل مع قوات النظام، لكنه رفض الإفصاح عن آلية هذا التعامل، رغم الأسئلة المتكررة التي طرحناها حولها.

وأضاف أن جميع “التسويات” التي حصلت في درعا كانت فاشلة، وجاء فشلها امتدادًا لفشل “التسوية الأم” عام 2018، وفق تعبيره، إذ لم تحقق تلك “التسوية” ما كان يرجوه النظام، كما لم تحقق مطالب أبناء المحافظة ووجهائها.

القيادي قال أيضًا إن سيطرة النظام وروسيا على الجنوب أنهت سيطرة المعارضة عليه، لكن النظام لم يسيطر بدوره، ما تسبب بفراغ أمني استدعى تدخل “اللواء الثامن” ومحاولة شغله عبر فرض قوته على الأرض، وتمكن من تحقيق نتائج مهمة على الأرض من خلال ضبط بعض المناطق شرقي درعا أمنيًا.

وبعد نجاح نموذجه الأمني شرقي درعا، وبالتحديد في مدينة بصرى الشام، صار نشاط “اللواء الثامن” يمتد إلى مناطق أخرى، فاتجه نحو ريف المدينة نفسها، وسيطر على قرى وبلدات فيها، وتدخل في نزاعات فصائلية بأرياف المحافظة.

قيادي سابق في فصائل المعارضة يقيم في ريف درعا الشرقي قال لعنب بلدي، إن المكونات العسكرية سواء من “اللواء الثامن” و”اللجان المركزية” لها علاقتها المباشرة مع النظام، رغم الرفض المعلَن لمعظم كوادرها للتعامل مع النظام.

وأضاف أن النظام يروج لحاضنته الشعبية وحلفائه أن هذه المكونات تابعة له وتعمل تحت إمرته، في حين أن هذه الفصائل تحوي آلاف المطلوبين له والمنشقين عنه.

القيادي الذي تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية، قال إن سكان ريف درعا الشرقي يتقبلون “اللواء الثامن” و”اللجان المركزية” بسبب رفضهم وجود النظام السوري في مناطق سكنهم، ولا ينبع تقبلهم من الحالة الإيجابية لهذه الأطراف.

وأشار إلى أن “اللجنة المركزية” و”اللواء الثامن” يتحركان بأريحية في درعا، وعناصرهما يمرون عبر حواجز النظام، وينفذون العمليات الأمنية هنا وهناك، ثم ينفون تعاطيهم مع النظام، أو تعاملهم معه.

“تسويات” لسد الثغرات

لم تقف “التسويات الأمنية” عند عام 2018، بل تكررت في عموم درعا، وبفترات زمنية مختلفة، لكن لم ينتج عنها أي تغيير جذري يُلحظ على ساحة درعا.

يرى العميد المنشق عن قوات النظام منير الحريري (ينحدر من درعا ويقيم في الأردن)، أن “التسويات” جاءت نتيجة لاتفاقات “أستانة”، وأدت بالنهاية إلى فصل الجنوب السوري عن الثورة السورية، وتشكيل “كانتونات” في الجنوب والغوطة والرستن والقلمون وغيرها من المناطق التي أجريت فيها.

وأضاف لعنب بلدي أن “التسوية” نجحت في حقن دماء أبناء المحافظة، لكنها فشلت في تطبيق أهدافها التي تعهد الجانب الروسي بتنفيذها، فلا تزال القبضة الأمنية قائمة، والتهديد بالاقتحام يتكرر، وملاحقة المنشقين موجودة، والمخاطر التي يعيشها السكان مستمرة بشكل يومي.

وحول إجراء “تسويات” عدة، قال الحريري إنها جاءت بعد ثغرات أمنية، هدف النظام منها سحب أكبر من عدد ممكن من قطع السلاح المنتشر بين بقايا فصائل المعارضة فيها، وسحب المزيد من المطلوبين للخدمة العسكرية لتغطية العجز البشري في جيشه.

ونتيجة لضعفه، استغل النظام وجود “اللواء الثامن” و”اللجان المركزية” لضبط الواقع الأمني المتردي، وسعى لدعم هذه المكونات لإدارة المنطقة بشكل شبه ذاتي، وإيهام السكان أن من يدير المنطقة هم فصائل من نسيج المجتمع، تعارض النظام.

 

كان النظام يهدف من خلال “التسويات” لسد ثغرات أمنية نتجت مع مرور الوقت، لكن هذه “التسويات” لم تخلص إلى نتائج، في حين مال النظام لاستغلال “اللواء الثامن” و”اللجان المركزية” لضبط الواقع الأمني، وإيهام السكان أنه لا يتدخل وأن المعارضة هي التي تدير المنطقة.

منير الحريري

ضابط برتبة عميد منشق عن قوات النظام

 

النظام يفتقر للموارد

في وقت تتحدث فيه القوى المحلية بدرعا عن أنها غير متوافقة مع النظام السوري، يرى مراقبون أن النظام لا يملك الموارد التي يحتاج إليها لإحداث حالة قد يستفيد منها في الجنوب السوري، وبدرعا على وجه الخصوص.

الباحث بالشأن السوري في مركز “Century International” آرون لوند، قلل من احتمالية أن يكون النظام السوري مستفيدًا من حالة الفوضى التي تشهدها المنطقة.

وقال لوند لعنب بلدي، إن النظام السوري في دمشق يحاول السيطرة على المنطقة الجنوبية بأفضل ما بوسعه، لكنه يفتقر إلى الموارد، ويعاني من القيود بسبب الترتيبات التي أعقبت عام 2018، والتي بموجبها تظل المجموعات المحلية نشطة في مناطقها.

ويعتقد الباحث أن بعض الأشخاص النافذين داخل النظام، قد يستفيدون من الاضطرابات الحاصلة في المنطقة، من خلال رعايتهم لعمليات التهريب على الحدود أو قضايا أخرى، إذ تخلق الفوضى بيئة أكثر تساهلًا لمثل هذه الممارسات.

وأضاف أن شبكات تهريب المخدرات والأسلحة، التي يبدو أن العديد منها مرتبط بالنظام، تسهم أيضًا في حالة عدم الاستقرار بالمنطقة، لكن ليس من الواضح ما إذا كانت السياسة الرسمية على النقيض من بعض الزمر داخل النظام التي تمارس سياسة معينة لتحقيق مصلحتها الخاصة.

قد يستفيد بعض الأشخاص الأقوياء داخل النظام من الاضطرابات من خلال تورطهم في عمليات التهريب. إن الفوضى قد تساعد في خلق بيئة أكثر تساهلًا لمثل هذه العمليات. ويبدو أن شبكات تهريب المخدرات والأسلحة، التي يبدو أن العديد منها مرتبط بالنظام، تسهم أيضًا في عدم الاستقرار، ولكن ليس من الواضح ما إذا كانت السياسة الرسمية على النقيض من الزمر المختلفة داخل النظام التي تفعل أشياء مختلفة ببساطة لتحقيق مصلحتها الخاصة.

آرون لوند

باحث متخصص بالشأن السوري

دورية روسية في درعا البلد جنوبي سوريا – 6 من أيلول 2021 (AFP)

ساحة لقوى إقليمية ودولية

لم تكن أسباب سحب الدعم وحل “الجبهة الجنوبية” المدعومة من قبل “موك” واضحة عام 2018، لكن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، اعتبر أن برنامج الدعم المقدم للمعارضة السورية “ضخم وخطير وغير فعال”، وذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن “التعاون مع روسيا أصبح نقطة أساسية في استراتيجية ترامب إزاء سوريا”، مضيفة أن القرار جاء نتاج تفاهم أمريكي- روسي.

وفي الوقت نفسه، كانت بصمة الروس ولا تزال حاضرة ومؤثرة في درعا، إذ لعبت موسكو دورًا محوريًا مع الأردن وإسرائيل والولايات المتحدة، وشكّلت ثقلًا سياسيًا وعسكريًا في المنطقة، لكن حضورها مرّ بفترات عدم استقرار بين تقليص نفوذ خلال الحرب الأوكرانية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم، وزيادته بعد عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية بغلاف غزة، في تشرين الأول 2023.

هذا الفراغ الذي خلّفته روسيا في الجنوب بداية حربها ضد أوكرانيا ملأته إيران، لتعود موسكو بقواتها وتعزز وجودها بشكل أكبر على طول مرتفعات الجولان، من خلال إنشاء عدد من مراكز المراقبة، كما أعادت تسيير دورياتها العسكرية في الجنوب مطلع تشرين الثاني 2023، بعد غياب استمر لأكثر من عام، حيث تجولت دورية عسكرية روسية جنوبي القنيطرة بين بلدة المعلقة وغدير البستان بالقرب من سرية “الصفرة” التابعة لـ”اللواء 90″ لدى النظام جنوبي المحافظة.

مركز “إنتل تايمز” البحثي الإسرائيلي، قال إن أعين وزارة الدفاع الروسية على إسرائيل، وإنها توثق أنشطة الشرطة الروسية في هضبة الجولان ليس لمراقبة الاستفزازات العسكرية بل لجمع معلومات استخباراتية وتكنولوجية وعسكرية عن قدرات الجيش الإسرائيلي، وعن أداء “حزب الله” اللبناني.

وزادت روسيا عدد مواقعها العسكرية في سوريا خلال الفترة بين منتصف عامي 2023 و2024، حيث ارتفع عددها من 105 إلى 114 موقعًا، وتعود معظم الزيادة في عدد المواقع الروسية التي جرت خلال النصف الأول من عام 2024 لانتشار هذه القوات ضمن عدد من المواقع الجديدة التي انسحبت منها الميليشيات الإيرانية في الجنوب وخاصة محافظة القنيطرة.

واعتبر مركز “جسور للدراسات” أن انتشار قوات روسية في مواقع عسكرية جديدة في سوريا هو استمرار لحرمان القوات الإيرانية من الانتشار في المواقع الاستراتيجية، لافتًا إلى أن المواقع العسكرية الروسية تتميز بتوفر مختلف أنواع الأسلحة فيها، وبتفوق لسلاح الطيران الحربي، والاستطلاع.

أحدث تحركات روسيا إنشاء قاعدة عسكرية في القنيطرة بالقرب من حدود الجولان السوري المحتل، “في اللواء 90” التابع لقوات النظام.

عميد كلية العلوم السياسية بالجامعة “الأهلية”، الدكتور عبد الله الأسعد، اعتبر أن روسيا ومنذ تدخلها عسكريًا في سوريا عام 2015، وضعت تفاهمات وشروطًا في الجنوب السوري أساسها حماية الحدود مع إسرائيل، وأقامت عدة نقاط عسكرية وتسلمت زمام الحراسة والدوريات، وثبتت أقدامها بقوة.

وقال الأسعد لعنب بلدي، إن إنشاء القاعدة الروسية في “اللواء 90″ مؤخرًا يأتي في سياق ضبط أي توتر ومنع حدوث هجمات بين إسرائيل والمجموعات التابعة لـ”حزب الله” اللبناني.

ومع أن هدف روسيا حماية ومنع حدوث أي أعمال من جهة الجولان المحتل، فإن الواقع، وفق الأسعد، هو فرض سيطرة أكبر لروسيا في الجنوب، لافتًا إلى أنها تسعى أيضًا لتثبيت قدمها أكثر في الشمال بعد إنشاء قاعدة عسكرية في عين العرب، مطلع آب الماضي.

ويرى الأسعد أن روسيا حاليًا تقتنص الفرص من خلال عدة تفاهمات مع دول إقليمية سواء مع تركيا أو مع إسرائيل في سبيل تحقيق مكاسب جيوسياسية، وأن تهدف إلى توسيع حضورها في الملعب السوري.

قوات النظام السوري في درعا – 7 تموز 2018 (AFP/Getty Images)

“طهران حاضرة للضغط”

تملك إيران نفوذًا كبيرًا في مدن وبلدات الجنوب السوري عبر أذرعها وميليشياتها من “الحرس الثوري” و”حزب الله” اللبناني، مقارنة بالقوات العسكرية الخارجية في سوريا، ويبلغ عدد مواقعها العسكرية 20 موقعًا في القنيطرة، و16 في درعا، و13 في السويداء.

رغم رفض الأوساط الشعبية وجود قوات إيرانية وروسية في درعا، فإن نفوذ طهران يختلف عن موسكو لأن إسرائيل تعارض هذا الوجود، وبدأت باستهداف وكلائها في سوريا منذ 2013 بـ”المعركة بين الحروب“، عندما استهدفت إسرائيل القوات الإيرانية و”حزب الله”، والفصائل المتحالفة معهما.

وفق تحليل لمركز “مالكوم كير- كارنيغي” للشرق الأوسط، فإن إيران عملت عبر ميليشيات محلية انتهازية تسعى إلى تحقيق النفوذ والمكاسب الاقتصادية وإرساء الأمن، ويُعرَف عناصرها وقادتها بتغيير ولاءاتهم، كما أن إيران تتمتع بأفضلية مؤكدة جنوبي سوريا، خصوصًا على طول المحور بين محافظة ريف دمشق والقنيطرة.

بحسب المركز، لا تتمتع طهران بحضور واسع النطاق فحسب، بل تمتلك أيضًا بنية تحتية أمنية متينة، بينما روسيا لديها هذه البنية التحتية في المنطقة، إلا أنها أقل رسوخًا على الأرض من إيران.

اعتبر الأسعد أن المستفيد الأكبر من القوى الإقليمية في حالة الفوضى التي تعيشها درعا اليوم هو إيران، لأن لديها عناصر وميليشيات على طول الحدود السورية- الأردنية، ولها القدرة على تنفيذ كل ما تريد من تهريب سلاح و”كبتاجون” وخلق مخاوف لدى إسرائيل.

واستنادًا إلى الحضور الكبير لإيران ووكلائها، يرى الأسعد أن موازين القوى في المنطقة الجنوبية وفي درعا بيد إيران بالكامل.

الباحث السوري في دراسات النزاع محمود الحسين، يرى في حديث إلى عنب بلدي، أن وجود الروس في درعا يعود بالدرجة الأولى إلى تفاهمات 2018 مع أمريكا وإسرائيل للحفاظ على أمن الأخيرة، وذلك أدى بالنهاية إلى انسحاب قسم من فصائل المعارضة من الجنوب إلى الشمال السوري.

في المقابل، فإن الوجود الإيراني في درعا سواء عبر ميليشيات أو اختراقات لطهران داخل أجهزة الأمن السورية، هدفه امتلاك ورقة للتفاوض والضغط يمكن أن تستثمر فيها إيران بملفات أخرى مع إسرائيل أو واشنطن يومًا، وفق الباحث الحسين، مستبعدًا تشكيل أي خطر من إيران على إسرائيل في تلك الجبهة.

 

المشهد المعقّد وحالة الفوضى الحاصلة في درعا هي نتاج تداخل بين قوى دولية مثل روسيا، وإقليمية مثل إيران وإسرائيل، وقوى محلية من النظام السوري وبقايا المعارضة.

محمود الحسين

باحث في دراسات النزاع

 

درعا مهمة لأمن إسرائيل

تفاهمات ضبط الجبهة الجنوبية وعدم التصعيد التي تعود جذورها إلى عام 2018، حين جرت محادثات  بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لم تمنع تكرار استهدافات إسرائيلية جنوبي سوريا ردًا على مصادر إطلاق نار.

ودائمًا ما تعلن إسرائيل مسؤوليتها عن هذه الاستهدافات، معتبرة أنها جاءت ردًا على صواريخ أطلقت من المنطقة، منها استهداف الجيش الإسرائيلي بلدة تسيل بريف درعا الغربي، في تموز الماضي، بعد إطلاق صاروخين من داخل الأراضي السورية باتجاه الجولان، وفق الجيش الإسرائيلي.

ووفقًا تحليل لصحيفة “واشنطن بوست“، فإن الصراع بين إيران وإسرائيل هو الأكثر احتمالًا للانفجار، ولسنوات، إذ انخرط الجانبان في “حرب ظل”، وهاجم كل منهما الآخر بهدوء في البر والجو والبحر، وفي بعض الحالات بالوكالة.

وذكر مركز “ألما” البحثي الإسرائيلي في دراسة صادرة عام 2020، أن وحدة استخباراتية إيرانية تحمل اسم “ملف الجولان” تعمل بهدف بناء بنى تحتية لـ”خلية إرهابية” في الجنوب السوري، وكيلة عن “حزب الله” اللبناني.

ويأتي الغرض من هذا النشاط في سياق جمع المعلومات وتنفيذ الأعمال الأمنية ضد إسرائيل، ويعتبر عناصرها والعاملون فيها من السكان المحليين السوريين الذين يعرفون المنطقة جيدًا، ويمكنهم الاندماج بين السكان المحليين.

الباحث السويدي المتخصص بالشأن السوري في مركز “Century International” آرون لوند، يرى أن الصراع بين إسرائيل وإيران يسهم بشكل كبير في المشكلات جنوبي سوريا، لافتًا إلى أن إسرائيل تدفع ضد نشر المسؤولين العسكريين الإيرانيين أو الميليشيات التابعة لهم في المنطقة.

ولا يستبعد لوند، في حديثه لعنب بلدي، أن تلعب إسرائيل دورًا في دعم جماعات محلية، كوسيلة لتلقي معلومات عن المنطقة وخلق اضطرابات لأعدائها، قائلًا إن إسرائيل ستستغل ببساطة الاضطرابات والتنافسات والثغرات الأمنية الموجودة بالفعل.

تقلّب الإمارات والأردن

لعبت الإمارات دورًا مؤثرًا في معادلة درعا، فبعد أن قدمت الدعم لفصائل المعارضة المسلحة، أسهمت عبر رجالاتها بوضع المنطقة تحت عباءة الروس، إذ اعتُبِر خالد المحاميد، وهو رجل أعمال سوري مقيم في الإمارات منذ العام 2000، رجل الإمارات في المعارضة السورية، خاصة في مدينة درعا التي ينحدر منها.

كان المحاميد الرجل الغامض والوسيط الرئيس الذي زوّد فصائل المعارضة المسلّحة في تحالف الجبهة الجنوبية بالتمويل الإماراتي، كما لعب دور الوسيط مع انطلاق الثورة السورية، بين النظام والأهالي في المحافظة، ثم انتقل إلى مناصرة الثورة.

وبدعم من الإمارات و”موك”، لعب أحمد العودة الذي تقلّب على أكثر من ضفة، دورًا في عملية انهيار سيطرة المعارضة على درعا، وتسليم درعا لروسيا وقوات النظام دون قتال، لتبقى آثار وبصمات الإمارات بارزة في مشهد درعا.

ولم يكن موقف الأردن ثابتًا حيال النظام السوري، فبعد أن كان الملك الأردني، عبد الله الثاني، أول زعيم عربي يدعو بشار الأسد إلى التنحي بعد اندلاع الثورة عام 2011، كان من بين أول العاملين على إعادة الانخراط والتعامل مع النظام السوري.

هذا الموقف للأردن البلد الحدودي مع سوريا يعكس العلامة الفارقة التي شكّلها في المشهد السياسي والعسكري وخاصة في درعا، فمنتصف عام 2013، اتخذت غرفة “موك” من الأردن مقرًا لها، ودخل الأردن في برامج تدريب لقوات المعارضة السورية، ليتهمه النظام السوري بتسهيل عبور “الإرهابيين” عبر حدوده.

إلى اليوم، لا تزال العلاقات فاترة بين النظام والأردن، في وقت بات تهريب المخدرات عبر الحدود إلى الأردن يؤرق البلد الجار، وأطلق مسؤولوه تهديدات بتدخل عسكري في سوريا للقضاء على شبكات التهريب، وبدأ سلاح الجو الأردني بغارات جوية جنوبي سوريا، في أيار 2023، في تطور غير مسبوق لطريقة تدخل الأردن في سوريا منذ عام 2011.

وعن دور الأردن جنوبي سوريا، ذكر تقرير لمركز “جسور للدراسات” أنه لا يزال مرتبطًا باستمرار التعاون والتنسيق مع النظام، لكن بالوقت ذاته أصبح هناك اعتماد متزايد على القوة العسكرية والأمنية للأردن لتقليص خطر التهديدات الأمنية القادمة من سوريا.

واعتبر أن استمرار عمليات التهريب بشكل متصاعد سيشكل ضغطًا على الأردن ومن خلفه الدول العربية، بما يؤدي إلى التراجع عن التنسيق الأمني والعسكري بين الطرفين، مع توقعات بأن تزيد عمان من ضغطها على واشنطن من أجل تزويدها بمعدات وتقنيات لازمة لمراقبة أمن الحدود وحمايتها.

واستبعد المركز أن يتطور دور الأردن إلى مرحلة تنفيذ عمليات عسكرية واسعة داخل سوريا، ما لم يكن هناك توجه أمريكي ثم عربي لمواجهة أنشطة الميليشيات الإيرانية في سوريا.

ما مستقبل الجنوب

حالة الفلتان الأمني التي تعاني منها المحافظة منذ سنوات، وتغلغل القوات الأجنبية فيها، لم تشكل أي دافع للأطراف للبحث عن سبل تنهي هذه الحالة على ما يبدو، إذ تعمل الأطراف المحلية على بذل الجهد لتجنب الخسائر أكثر مما هو عليه في سبيل تحقيق مكاسب، وفق ما قاله قياديون محليون لعنب بلدي.

العميد المنشق عن قوات النظام منير الحريري، توقع خلال حديثه لعنب بلدي أن تشهد محافظة درعا المزيد من الفوضى الأمنية لتعدد الميليشيات المحسوبة على الفروع الأمنية، وتضارب مصالحها مع بعضها.

من جانبه، يرى الباحث في دراسات النزاع محمود الحسين، أن النظام ضعيف وهش في درعا لسببين، الأول هو الوجود الروسي الذي سمح لهامش من قوات فصائل المعارضة أن تضغط على النظام.

وثانيًا أن النظام غير قادر على تغطية المنطقة عسكريًا، فهو في حالة استنزاف بعد 13 عامًا من القتال والمعارك العسكرية، مشيرًا إلى أن الأخير عاجز عن السيطرة والتموضع.

ووفق الحسين، لا يملك النظام بيده اليوم سوى محاولة إشغال المنطقة بقصص الاغتيالات والاختراقات والخطف وتأجيج الصراع بين مكونات الجنوب، كتلك التي تحدث بين درعا والسويداء أحيانًا.

عميد كلية العلوم السياسية بالجامعة “الأهلية”، عبد الله الأسعد، توقع أن تتجه الأوضاع الأمنية في محافظة درعا جنوبي سوريا نحو المزيد من السوء.

وأضاف أن المقاومة في وجه النظام السوري تتنامى يومًا بعد يوم، وهو ما يثبته استهداف محافظ درعا مؤخرًا مع مسؤولين آخرين في النظام بهجوم في4  من أيلول الحالي، أسفر عن جرحى.

مظاهرة طالبت بإسقاط النظام السوري في مدينة بصرى الشام شرقي درعا- 18 من آب 2023 (تجمع أحرار حوران)

مقالات متعلقة

  1. النظام يصعّد عسكريًا وأمنيًا في القنيطرة.. هل يكرر سيناريو درعا
  2. "تسويات" السويداء.. "بروباغندا" إعلامية يقودها حسام لوقا
  3. "تسويات" درعا.. طموحات النظام لا يعكسها الواقع الميداني
  4. لماذا تمددت تفجيرات درعا إلى مناطق تحت قبضة النظام الأمنية؟

تحقيقات

المزيد من تحقيقات