“هنا لندن”.. كيف يتعلق الناس بالإعلام

  • 2024/09/08
  • 2:55 م
الصحفي علي عيد

علي عيد

يميل معظم الناس إلى تكذيب الإعلام، لكنهم يتأثرون به، وعندما يناقشون قضية عامة، فهم غالبًا ما يتحدثون عنها من بوابة ما سمعوه في نشرة الأخبار أو قرأوه في الصحيفة.

منذ أربعينيات القرن الماضي، كان الملايين في بلادنا يستمعون إلى “إذاعة لندن”، في وقت كان العالم يعيش أقسى صراعاته، ويبحث فيه البشر عن معلومة حول ما يجري، بخلاف ما ينقله البعض ممن أتيح لهم العمل في السياسية وممارسة النشاط الحزبي.

لم يكن القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، الذي بدأ بثه عام 1938، عملًا خيريًا، بل كان توجهًا سياسيًا لبريطانيا العظمى، مع استشعارها باقتراب الحرب العالمية الثانية (1939)، بعد تجربة الحرب العالمية الأولى، التي امتدت أربع سنوات (1914-1918)، وتبينت فيها أهمية المنطقة العربية جيوسياسيًا، حيث منابع النفط، والممرات الدولية البحرية الاستراتيجية في الخليج العربي والبحر الأحمر وقناة السويس.

تعززت العلاقة مع “إذاعة لندن” مع الوقت، حيث غطت، بلا منافس، حروب المنطقة منها حرب فلسطين 1947، ونكسة حزيران 1967، وحرب تشرين (أكتوبر) 1973، والحرب الأهلية في لبنان 1975، ثم ما تبعها من أحداث وصولًا إلى حربي الخليج الأولى والثانية.

لطالما اعتبرها أبناء المنطقة أصدق من الإعلام المحلي، والسبب أنها غالبًا ما كانت تقدم رواية مختلفة يبحث عنها الناس، في بيئة سياسية مغلقة.

حفظ أبناء جيل ما قبل الألفية الثالثة حتى موسيقا نشرة الأخبار والموجز في تلك الإذاعة، وأذكر أن أبي كان يقتني جهاز “راديو” صغيرًا، يرافقه في البيت وحتى في الحقل، وغالبًا ما يضعه قرب رأسه عند النوم، فينام ويستيقظ على صوت “إذاعة لندن” (BBC).

يروي كثيرون كيف كان صوت جرس “بيج بن” بمنزلة منبه في بيوتهم، إذ لطالما ضبطت تلك الدّقات موعد استيقاظهم أو عملهم.

“إذاعة لندن” هي مثال حي لتأثير الصحافة والإعلام في الرأي العام وضمير الناس، وهذا التأثير يتطور إلى عادات، وهو ما يعني أن الوسيلة الإعلامية استطاعت النفاذ إلى المكان الذي تريد، وربما أكثر، لتصبح منتجاتها أشبه برغيف الخبز الذي يشتريه الناس كل صباح.

وكان مذيعوها علامة فارقة، أثرت مهنيتهم وخبرتهم أيضًا في مؤسسات صحفية أخرى انتقلوا إليها، ومَن مِن الأجيال السابقة لا يذكر سامي حداد، وجميل عازر، وهدى الرشيد، وسلوى جراح، ومحمد صالح الصيد، وآخرين.

كيف نسمي وسيلة إعلامية بأنها عريقة، وهذا مصطلح لا يعرف الكثيرون من أبناء الجيل الجديد معناه، فالعمل الصحفي يحتاج إلى المثابرة في تعزيز الثقة، والثبات على استخدام أدوات التأثير، ومجاراة الأحداث، وفهم البيئة الاجتماعية والسياسية والنفسية التي تتوجه إليها الرسالة الإعلامية.

خلال السنوات الـ30 الأخيرة، سعت وسائل إعلام عربية عابرة للحدود لترك أثر يشبه ذلك الذي تركته “إذاعة لندن” ودقّة “بيج بن”، وليس الوقت مناسبًا للحكم على نجاحها في المهمة، لأنها في كثير من الأحيان بدت عارية من استقلاليتها، على الرغم من أن “BBC” هي الأخرى لم تظهر دون أهداف، لكنها حافظت على سلوك مهني وتقاليد، لتمرير ما تريد قوله، وما تسعى لإيصاله من رسائل.

في 27 من كانون الثاني 2023، وعند منتصف النهار “بتوقيت غرينتش”، توقفت “إذاعة لندن” العربية، وكانت آخر عبارة أطلقتها قبل إغلاق الستارة على 85 عامًا هي “هنا لندن، هيئة الإذاعة البريطانية”.

كتب وتحدث صحفيون ومثقفون وسياسيون عن أثر هذا الإغلاق، وأثر “إذاعة لندن”، ومعنى أن تتوقف بعد كل هذا.

وراء تلك الإذاعة، وعلى مدار عشرات السنوات، كان هناك مناضلون صحفيون يتوزعون في أنحاء العالم، يغطون الأحداث، وفي الاستوديوهات وغرف الأخبار كان زملاؤهم يحررون الأخبار ويقدمونها عبر الأثير لملايين البشر.

لم يدرك أبي الذي توفي في آب 2007 حدث إغلاق الإذاعة التي ظل وفيًّا لها حتى ذلك التاريخ، ولحظة رحيله قرابة السادسة صباحًا، كان إلى جانبه جهاز “الراديو”، وربما كان آخر ما سمعه هو صوت “بيج بن” وعبارة “هنا لندن”.. وللحديث بقية.

مقالات متعلقة

  1. هنا لندن
  2. الراحل رائد الفارس يُكرَّم بجائزة الشجاعة الصحفية البريطانية
  3. من الحرب العالمية الثانية إلى سوريا.. مخلفات الحرب تقلق الخبراء
  4. غرف على سطح القمر وهمبرغر للعسراويين.. هذه أبرز "كذبات نيسان"

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي