أحمد عسيلي
كان العنف في بدايات الثورة السورية من طرف واحد، وهو النظام و”شبيحته”، وهو عنف متأصل في بنيته ككل الأنظمة الدكتاتورية الصلبة، ومع استمراره، توسع بشكل أكبر وأصبح يشمل أيضًا بعض الثوار الذين اضطرتهم مسارات الثورة إلى حمل السلاح، لتصبح ثورة مسلحة، وإلى هنا أيضًا كانت تطورات الأوضاع ضمن سياقها الطبيعي، فنظام يقتل، سيواجه بالتأكيد من يتصدى له ويدافع عن أهله، والثورات المسلحة شكل من أشكال النضال التي شهدتها الكثير من الدكتاتوريات الدموية (بغض النظر عن موقفنا منها).
لكن، ومع استمرار هذا العنف والعنف المضاد، وتعقيد المشهد السياسي، وخروج الكثير من المناطق عن سيطرة النظام، وجدت نفسها ضمن الفراغ المؤسساتي في المناطق المحررة، وفقدان سيطرة ممثلي الدولة (أو شبه الدولة) في مناطق سيطرة النظام، لمصلحة قوى جديدة سورية وغير سورية (لجان الدفاع الوطني، الميليشيات الإيرانية…)، بدأت مظاهر العنف تتصاعد ببطء، ولم تعد متصلة فقط بالثورة ومساراتها، بل أخذت منحى مختلفًا تمامًا، لا علاقة له أبدًا بالصراع الدائر، كسلسلة القتل والثأر التي شهدها المجتمع في محيط درعا منذ عدة سنوات، ووصلت إلى مرحلة مخيفة حتى بين أطراف المعسكر الواحد، وسلسلة المعارك الدموية التي تابعناها بكل حزن في الغوطة بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، التي قُتل فيها المئات من الشباب المشارك في القتال، وما نشهده بين فترة وأخرى في المناطق المحررة أيضًا، من اقتتال واغتيالات متبادلة بين رؤوس الفصائل.
هذا العنف لم يقتصر على بقعة جغرافية معينة، بل شمل مناطق النظام أيضًا، فقد قرأنا عن العشرات من الصراعات بين “الشبيحة” أنفسهم، وحوادث قتل واغتيالات في معسكر النظام ذاته، وبين أجنحته المتعددة، وصلت إلى معارك عنيفة، واستخدام للأسلحة الثقيلة في معاقل النظام وخزانه البشري.
فلماذا وصلنا إلى تلك النقطة؟
لا تستطيع أي تفسيرات طائفية أو عرقية تحليل ما حدث من شلال العنف اللاحق، فأهل درعا، وكذلك أهل الغوطة، أو “شبيحة” الساحل وغيرهم من “شبيحة” المناطق الأخرى، لديهم غالبًا نفس الخلفية المذهبية والعرقية واللغوية، أو على الأقل لم تكن تلك الانتماءات السبب الأساسي في تلك الصراعات، فلا اختلافات أبدًا تفرق بين “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن”، لا دين ولا لغة، ولا طائفة، كذلك الوضع في المناطق المحررة.
مرة أخرى نطرح السؤال، أين الخلل؟
أتاني الجواب لاحقًا من علم النفس السياسي، جواب بسيط جدًا، وبديهي جدًا، لكنه صحيح جدًا، فكلما تراجع الاستقرار الأمني والاقتصادي لمنطقة ما، يزداد العنف بين سكانها (لأسباب متعددة سنخوض بها في مقالات لاحقة) والعكس بالعكس، كلما ازداد هذا الاستقرار، تنخفض معدلات الجريمة، لتتلاشى تمامًا في الدول الديمقراطية والغنية.
فحالة الأفراد داخل أي مجتمع تتحول وتتبدل طبقًا لمستويات هذا الاستقرار، وقد أجرى فريق من الباحثين الاجتماعيين (في كتاب علم النفس السياسي، ترجمة عبد الكريم ناصيف) تجربة على مجموعة من الأطفال الكنديين (أكثر الدول استقرارًا وغنى) وعرضوا عليهم مجموعة سيناريوهات لانهيارات اقتصادية وسياسية في المجتمع الكندي، ليجدوا أن هؤلاء الأطفال سلكوا أكثر الحلول تطرفًا لمواجهة تلك السيناريوهات، فحين نقول إن العنف يولد العنف، لا نقصد به فقط العنف المضاد الذي سيكون رد فعل الآخر، بل نقصد أيضًا أن العنف يخلق بيئة مهيأة ليتكاثر بشكل سرطاني حتى في الطرف ذاته، لذلك تحرص الكثير من مؤسسات الدول المتقدمة على الحد من استخدام العنف من قبل الشرطة وقوات الأمن داخل المدن، لأن انطلاق شرارة العنف قد لا تكون قابلة للتحكم، وتحرص تلك الدول على استخدام أقل ما يمكن من الوسائل في الحفاظ على الأمن، وهذا لا يعود لأسباب إنسانية وللحفاظ على كرامة المواطن فقط، بل لسببين ربما هما الأهم، الأول أن استخدام العنف من قبل قوات الأمن ربما يصبح غير قابل للتحكم به لاحقًا (وهذا ما وصلت إليه الأمور في بعض المناطق مع الشبيحة)، والسبب الثاني أن انتشار العنف سيخلق بيئة مشجعة عليه حتى بين السكان أنفسهم، وحينها ستصبح الدول مهددة بأن تصبح فاشلة، كما أصبحت حالة الدولة السورية حاليًا.
هذا الفشل ليس خاصًا بالمناطق العربية أو الشرقية كما يحاول أن يوحي البعض، بل هو حالة وصلت إليها الكثير من الدول الأخرى، وموجودة حتى في بعض البيئات الأوربية المهملة، بل وفي ضواحي بعض عواصمها، ففي ضاحية نانتير الباريسية مثلًا، هناك فعلًا مستويات من العنف أعلى مما في بقية المناطق، لكن هذه المنطقة أيضًا هي التي تشهد أكثر مظاهر عنف للشرطة وصلت إلى مرحلة القتل (الطفل نائل مثلًا). بالتأكيد الشرطة الفرنسية لا تستطيع فعل الشيء نفسه مع طفل في الضاحية الـ16 بباريس (أرقى الضواحي الباريسية)، فالعنف يُغض النظر عنه في مناطق محددة فقط، وهي المناطق ذاتها التي تعاني من كل أشكال الجريمة.
وبذلك فجريمة النظام السوري لا تقتصر على قتل المتظاهرين فقط وبشكل مباشر، بل تشمل توليد بيئة غير صحية أدت إلى انتشار الجريمة والقتل في المناطق المحررة ومناطق مؤيديه أيضًا.
وللحديث بقية.