هل من منجى للسوريين من ديون النظام

  • 2024/09/08
  • 2:32 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

لا أحد من السوريين يعلم على وجه الدقة ما الديون المترتبة على الدولة السورية، إلا اللهم حفنة من موظفي المستوى الأول بالدولة، خاصة في البنك المركزي، وأولئك الذين يعملون ضمن الدائرة المختصة بالشؤون المالية والاقتصادية، وكل هؤلاء من غير المسموح لهم الإفصاح عما يعلمون، وهذا شيء مألوف جدًا في النظم السلطوية التي لا تريد ولا تقبل مشاركة المعلومات والبيانات وتداولها، باعتبارها قد “توهن من عزيمة الأمة”.

وفق المعلومات، أو لنقل التخمينات، المتاحة والمتداولة والمستمدة من تصريحات مسؤولي بعض الدول الدائنة، ووفق بعض الوثائق المسربة، فإن نظام الأسد رتب ديونًا لإيران على سوريا منذ عام 2012 ولغاية 2020 بلغت 50 مليار دولار، تسعى إيران لاستعادتها على شكل استثمارات ومشاريع مختلفة واستحواذ على الفوسفات من خلال اتفاقية للتعاون الاقتصادي والاستراتيجي بين البلدين، فرضتها إيران على الحكومة السورية فرضًا.

أيضًا، ليس معلومًا كم هو مبلغ الدين المترتب لروسيا على سوريا، والذي يقدّره البعض بنحو 17 مليار دولار، وطبعًا هذا الدين لا علاقة له بالذي سبق لروسيا أن شطبته من مديونية سوريا للاتحاد السوفييتي السابق، بل هو دين مترتب كقيمة أسلحة وذخائر وتحديث وتطوير وصيانة السلاح، فضلًا عن قيمة شحنات القمح والنفط التي ترسلها إلى سوريا لإبقاء النظام قادرًا على الوقوف على قدميه.

بالعموم، يمكن القول إن سوريا غارقة حتى شحمة أذنيها بالديون، التي، بحسب تقرير مشترك لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمركز السوري لبحوث السياسات، بلغت نسبته عام 2014 أي قبل عشر سنوات من الآن 73% من الناتج القومي، بينما يعتقد بعض الخبراء الاقتصاديين أن الدين حتى نهاية 2016 تجاوز 60 مليار دولار، وذلك استنادًا إلى حجم الدين السابق وتكلفة خدمة الدين وتوقف الإنتاج وهجرة الرساميل، فضلًا عن ارتفاع فواتير التدخل والدعم العسكري الخارجي.

في ضوء تلك الأرقام والمعطيات، هل يمكننا تخيل حجم الديون الخارجية على السلطات السورية اليوم، وكم ستكون تكلفة إعادة الإعمار وإعادة ترميم البنى الاقتصادية، التي يقول بعض المختصين إنها ستتراوح بين 300 و600 مليار دولار.

مع هذه المعطيات ستكون حياة بضعة أجيال من السوريين مثقلة بكم خرافي من الديون وخدمتها ومن تكلفة إعادة الإعمار، حتى لو جيرت كل موارد الدولة السورية دون أي نهب منها لفعل ذلك فستحتاج سوريا إلى عقود طويلة حتى تبدأ حقًا بالتعافي الاقتصادي. هذا إذا ما تصورنا أن حلًا سياسيًا حقيقيًا تم إنجازه اليوم وانطلقت أعمال ورشة إعادة الإعمار.

هل من سبيل حقًا لإهدار تلك الديون التي رتبتها العصابة الحاكمة على الدولة السورية واستخدمتها في تمويل حربها على الشعب السوري؟

الحقيقة ليس أمام السوريين وأي سلطة انتقالية قادمة من سبيل إلا تصنيف تلك الديون على أنها ديون كريهة ورفض سدادها أو أداء خدمتها للدول الدائنة، وهذا مذهب معروف في القانون الدولي وثمة سوابق مشابهة لجأت إليها دول عدة في هذا السياق، سأحاول عرضها بإيجاز بعد الإضاءة على مفهوم الديون الكريهة أو البغيضة.

الديون الكريهة هي تلك الأموال التي تستدينها سلطة ما لا تتمتع بالمشروعية، أو أن مشروعيتها محل شك وتنازع، لأجل استخدام تلك الديون لأغراض لا تخدم مصالح الشعب أو الأمة، فهي ديون ساقطة لا يجوز وفاؤها.

ويعود أصل هذا المفهوم لنظرية قانونية كتبها الفقيه القانوني الروسي ألكسندر ناحوم ساك في العام 1927، مستندًا في ذلك إلى سابقة حصلت في القرن الـ19، عندما تنصلت حكومة المكسيك المنتخبة برئاسة بينيتو خواريز من سداد الديون، التي اقترضتها حكومة الإمبراطور ماكسيميليان خلال الحرب الأهلية لدعم مجهوداتها الحربية وتغطية نفقات استجلاب التدخل العسكري الأوروبي لدعم سلطته.

تقول النظرية: “عندما يوقّع نظام مستبد عقود دين ليست لتلبية احتياجات أو مصالح الدولة، بل يتم استخدام تلك الأموال لتقوية النظام وقمع الانتفاضات الشعبية، وعندما يكون هذا الدين مكروهًا من أفراد الشعب لأنه يلقي على كاهله أعباء لم تعد عليه بأي فائدة، عندها يكون هذا الدين غير ملزم لهذا الشعب بل هو دين للنظام، أي دين شخصي تعاقد عليه الحاكم وبالتالي فإنه يسقط بسقوط النظام”.

ووفق تلك النظرية فإن مشروعية الديون الخارجية للدولة ترتبط بشكل وثيق بمشروعية السلطة المتعاقدة على هذا الدين، ومشروعية استخدام تلك الأموال بحيث تكون مخصصة فعلًا لسد احتياجات الدولة وتحقيق مصالحها، وليس لسد احتياجات السلطة في تدعيم وتطوير قدراتها الأمنية والعسكرية التي توظفها لمواجهة شعبها أو حصاره أو تجويعه وتهجيره، وبالتالي فإن فقدان مشروعية تلك الديون معطوف على علم الدول الدائنة نفسها أن استخدام السلطة المدينة الأموال خارج احتياجات شعبها كفيل بجعل تلك الديون ديونًا كريهة، والتنصل منها حق لشعب تلك الدولة عندما ينجح بالإطاحة بحكومته التي تعاقدت على هذه الديون.

إذًا، المسألة لا تحتاج إلا لجهود قانونية حثيثة من قبل أي سلطة انتقالية تؤول إليها إدارة شؤون البلاد عقب إسقاط أو رحيل أو ترحيل سلطة النظام الحالية، وهو ما يقودنا للإشارة إلى نقطة مهمة جدًا ملقاة على كاهل المعارضة، وهي رفض إبرام أي صفقة سياسية يكون من مخرجاتها بقاء السلطة الحالية جزءًا من مستقبل سوريا بأي شكل من الأشكال، ليس فقط بسبب الجرائم والانتهاكات المروعة التي ارتكبتها بحق السوريين، وليس فقط لحجم التدمير الممنهج للمدن وللمجتمع السوري وتهجير نصفه خارج وطنه، والتي أفقدته كل شرعية أو مشروعية، ولكن أيضًا حتى لا تتبدل الصفة القانونية لتلك الديون من ديون كريهة إلى ديون تستمد مشروعية أدائها ووفائها من مشروعية استمرار وجود بنية النظام المدين بها نفسه في أي تسوية سياسية مقبلة، وبالتالي تنتقل مسؤولية وفاء أصل وأعباء خدمة تلك الديون الهائلة إلى الأجيال القادمة وتصبح ملزمة للسلطة الحاكمة المقبلة، الأمر الذي سيعوق أي فرصة للنهوض مجددًا لقرن مقبل.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي