عنب بلدي – هاني كرزي
وجد النظام السوري في حركة المسافرين موردًا ماليًا يجني من خلاله المليارات لدعم اقتصاده المنهار، على مدار السنوات الماضية، إذ استغل نشاط حركة السفر عبر الحدود ليفرض سلسلة من القرارات التي تتيح له تحقيق مكاسب اقتصادية.
أول القرارات كان رفع أسعار جوازات السفر، وليس آخرها فرض تصريف 100 دولار على السوريين العائدين إلى بلدهم.
النظام اعتمد أبوابًا متعددة لكسب المال من القادمين والراغبين بالعودة إلى البلاد، منها “ورقة التسوية” و”بيان مغترب”، كما سمح لقنصلياته وسفاراته المنتشرة في مختلف دول العالم بإصدار وثائق تتيح العودة مقابل مبالغ بالقطع الأجنبي.
100 دولار لتدخل إلى وطنك
في 9 من تموز 2020، أصدر النظام السوري قرارًا يلزم كل سوري مغترب بتصريف مبلغ 100 دولار أمريكي لدى وصوله إلى الأراضي السورية، وفقًا لنشرة أسعار صرف الجمارك والطيران.
القرار أثار حينها ضجة كبيرة، واعتبره سوريون وسيلة من النظام لتحقيق مكاسب اقتصادية، ولا سيما أن إجبار المواطن على تصريف 100 دولار بحسب نشرة أسعار صرف الجمارك والطيران، يعني أنه سيخسر حوالي نصف المبلغ، بسبب الفارق الكبير عن أسعار الصرف في السوق السوداء.
وكان سعر صرف الجمارك حين أعلن النظام عن قرار صرف الـ100 دولار في تموز 2020 يعادل 1250 ليرة سورية للدولار الواحد، بينما كان سعر الصرف الفعلي في السوق السوداء 2600 ليرة، أي أن المواطن سيخسر أكثر من ضعف المبلغ عند التصريف.
في آب 2023، أعلنت حكومة النظام تعديل سعر صرف الـ100 دولار المفروض على السوريين القادمين إلى البلاد عبر المنافذ الحدودية، ليصبح بسعر صرف نشرة الحوالات الصادرة عن مصرف سوريا المركزي، بدلًا من نشرة أسعار الجمارك والطيران.
تعديل البنك المركزي تصريف الـ100 دولار وفق نشرة الحوالات لم يكن حلًا مجديًا للمواطنين القادمين إلى سوريا، كونه ما زال هناك فارق عن السعر الفعلي في السوق السوداء.
ووفق أحدث نشرة لسعر صرف الحوالات، فإن تصريف 100 دولار يعادل مليونًا و360 ألف ليرة سورية، بينما يعادل وفق سعر الصرف في السوق السوداء مليونًا و465 ألف ليرة، أي أن المواطن سيخسر أكثر من مئة ألف ليرة عن كل عملية دخول إلى بلده.
النظام لم يكتفِ بالمكاسب المالية التي يجنيها مقابل تصريف السوريين 100 دولار عند دخولهم سوريا، بل بدأ في نهاية آب الماضي بتطبيق آلية جديدة لتصريف الـ100 دولار.
وأعلن المصرف التجاري السوري أن تصريف الـ100 دولار للمواطنين القادمين عبر مطار “دمشق الدولي” سيكون عبر منح “شيك” للمواطن بدلًا من النقود، يتم صرفه ضمن فروع المصرف التجاري السوري، وفق ما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).
وذكر المصرف أن هذا الإجراء بدأ بشكل تجريبي في مطار “دمشق الدولي”، على أن يعمم لاحقًا على جميع المطارات والمنافذ الحدودية، قائلًا إن هدفه “تخفيف الازدحام الناتج عن تسليم المبلغ من قبل الموظف المعني في المطار، وما يرافقه من ضياع وقت خلال عدّ المبلغ والتأكد منه من قبل صاحب العلاقة”.
استياء بين السوريين
عنب بلدي رصدت ردود فعل بعض السوريين على هذا القرار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، واعتبره بعضهم بمنزلة تعقيدات جديدة على المواطن وليس تسهيلات، إذ سيضطر للتوجه إلى المصرف التجاري لصرف المبلغ، وهناك سيقف على الطابور لساعات، عدا التكلفة التي سيتكبدها للذهاب إلى المصرف في ظل غلاء المواصلات.
كما قوبل القرار بانتقادات حول فقدان الإيصال، وبالتالي فقدان القدرة على الحصول على المبلغ، بينما قد يتخلى بعض المواطنين عن المبلغ بسبب إقامتهم في مناطق ريفية بعيدة عن المصرف التجاري.
وقال المحلل الاقتصادي رضوان الدبس، لعنب بلدي، إن هدف النظام من فرض تصريف 100 دولار على السوريين العائدين إلى بلدهم، هو رفد خزينته بالقطع الأجنبي الذي يعاني من قلته بسبب تراجع الصادرات، كما أن الفارق بين سعر الصرف لدى البنك المركزي والسعر “الحر” يبلغ حوالي 30% والتي تذهب لجيوب النظام.
وأضاف الدبس أن النظام يهدف من قرار الـ100 دولار أيضًا إلى تحسين قيمة الليرة السورية من خلال إجبار الناس على التعامل بالعملة المحلية، بينما يكسب هو الدولار منهم، ومن خلال ملاحظة الأعداد الكبيرة من السوريين الذين يدخلون بشكل أسبوعي عبر المنافذ البرية والبحرية والجوية، “نعلم حجم المكاسب التي يجنيها النظام من قرار تصريف الـ100 دولار”.
وحول لجوء النظام مؤخرًا لصرف الـ100 دولار عبر الشيكات بدلًا من النقود، أفاد الدبس أن ذلك محاولة من حكومته لجني مكاسب مالية أكبر، فمثلًا بعض الأغنياء، أو من حصلت لديهم ظروف معينة، كأن يكون لديهم دخول وخروج سريع من سوريا، أو يكون المصرف التجاري بعيدًا عن مكان إقامتهم، سيضطرون للاستغناء عن تصريف الـ100 دولار.
وثائق “وهمية” لكسب المال
النظام فتح بابًا آخر لكسب المال عبر قنصلياته وسفاراته المنتشرة في مختلف دول العالم، حيث عمل على إصدار وثائق تتيح للسوريين العودة إلى بلادهم مقابل تقاضي مبالغ مالية، تساعده على رفد خزينته بالقطع الأجنبي.
“ورقة تسوية”، إحدى الوثائق التي اشترط النظام استخراجها من قبل كل سوري خرج من بلده بطريقة غير شرعية، أي ليس عبر المنافذ الحدودية الرسمية، أو كل من تخلّف عن الخدمة العسكرية.
عبد الرحمن سحاري، لاجئ سوري في ولاية اسطنبول التركية، فقد التواصل مع أخيه الذي عاد إلى مدينة حلب قبل ستة أشهر، بعدما ضاقت به الحال في تركيا.
قال عبد الرحمن لعنب بلدي، إن شقيقه أحمد سمع من أصدقائه أنه يمكن لأي سوري خرج من بلده بطريقة غير شرعية استخراج “ورقة تسوية” من القنصلية السورية في اسطنبول، وبأن تلك الورقة تتيح له العودة إلى بلده دون أن يتعرض لأي مساءلة من قبل مخابرات النظام.
استخراج “ورقة تسوية” يتطلب حجز موعد من القنصلية، وحين يأتي الموعد يجب أن يصطحب الشخص صورة عن بطاقة “الحماية المؤقتة” في تركيا (كملك) والهوية السورية وصورًا شخصية، إضافة إلى تعبئة طلب “التسوية” الذي يُعطى في القنصلية، ومن ثم دفع مبلغ 50 دولارًا.
أضاف عبد الرحمن أنه بعد أن حصل شقيقه على وثيقة “تسوية”، عاد إلى مكان إقامته في حي صلاح الدين بمدينة حلب الخاضعة لسيطرة النظام، لكنه فقد التواصل معه بعد وصوله إلى منطقة مساكن هنانو في حلب، و”منذ ذلك الوقت لا نعلم عنه شيئًا، علمًا أنه أنهى الخدمة الإلزامية سابقًا، لكن يبدو أن أوراق التسوية هي مجرد وثائق وهمية، لكسب المال من السوريين، وإيقاعهم في فخ العودة إلى بلدهم”، بحسب تعبيره.
من الوثائق التي يمنحها النظام للسوريين في الخارج للسماح لهم بالعودة، ورقة “بيان مغترب”، التي تُستخرج من سفارات وقنصليات النظام في الخارج، وهذه الورقة تتيح للسوري زيارة سوريا حتى لو كان مطلوبًا للخدمة العسكرية.
استخراج هذه الورقة يكلف 50 دولارًا أيضًا، لكنها كغيرها مجرد وثيقة “وهمية للإيقاع بالسوريين”، كما حصل مع “التيك توكر” السوري عبد الرحمن نفيسة، الذي قرر زيارة سوريا بعد 12 عامًا من لجوئه إلى ألمانيا.
نفيسة نشر فيديو تحدث فيه عما حصل معه بعد استخراجه ورقة “زيارة مغترب”، حيث وصل إلى الحدود السورية- اللبنانية، وهناك أخبره عنصر من النظام على الحدود أن عليه خدمة عسكرية، فأخبره نفيسة أنه استخرج “ورقة مغترب” لتحميه من السوق للخدمة الإلزامية خلال فترة زيارته إلى سوريا، فقال له العنصر إنه عليه زيارة الفرع “251”، لكنه لم يفصح له عن ماهية هذا الفرع.
العنصر طلب من نفيسة التوجه إلى الشباك الثاني للحصول على ورقة تؤكد أنه سيراجع الفرع “251”، وهناك طلب الشاب من العنصر الثاني أن يخبره عن ماهية هذا الفرع، لكن العنصر رفض الإجابة حتى تقاضى رشوة 100 ألف ليرة سورية، ليخبره بعدها أنه فرع “الخطيب”، الذي يعتبر أحد أسوأ فروع المخابرات في سوريا.
بعد سماع نفيسة باسم الفرع شعر بالخوف وقرر عدم الدخول إلى سوريا، وعاد إلى الموظف الأول وأخبره أنه لم يعد يرغب بزيارة سوريا، لكن الموظف رفض وقال إن عليه الدخول إلى البلد، ما دفع نفيسة لإعطائه رشوة 100 ألف ليرة، مقابل أن يختم له على جواز سفره ختم الخروج للعودة إلى لبنان، ومن هناك عاد إلى ألمانيا التي يحمل جنسيتها.
رسوم إضافية على الدخول والخروج
النظام سعى لتقاضي الأموال مقابل منح تصاريح السفر، حيث قال نقيب المحامين لدى النظام السوري، الفراس فارس، إن المبالغ الذين دفعها المحامون الذي صرّحوا عن سفرهم ووجودهم خارج البلاد نحو 250 ألف دولار، حيث يجب على المحامي الراغب بالسفر دفع 500 دولار عن كل سنة لاحقة.
وأوضح فارس لصحيفة “الوطن” المحلية، في 4 من أيلول الحالي، أن المبالغ المحصلة يتم تحويلها إلى المصرف التجاري الذي بدوره يحولها إلى النقابة بالليرة السورية بسعر الصرف الرسمي، ومن ثم يتم توزيعها على صناديق النقابة، مشيرًا إلى أن العديد من المحامين تقدموا بطلبات سفر.
من المكاسب المالية التي سعى نظام الأسد لتحصيلها من المسافرين السوريين، تفاضي رسوم إضافية على البضائع التي يشترونها من المطار.
وكانت الممثلة السورية علياء سعيد شنت هجومًا ساخرًا على شركات الطيران السورية وطريقتهم بجمع الأموال من الركاب، وذلك في فيديو نشرته عبر حسابها على “إنستجرام” في أيار الماضي.
وتحدثت حول ما حصل معها، قائلة إنها سافرت عبر الطيران السوري من مطار “دبي”، ودفعت كل المستحقات المطلوبة منها لحملها وزنًا زائدًا، ولكن الصدمة كانت عند وصولها إلى باب الطائرة، عندما طلب منها المسؤولون دفع مبلغ عن الأشياء التي اشترتها من “السوق الحرّة”.
وأضافت علياء أن الأشياء الموجودة في “السوق الحرّة” يكون وزنها مدفوعًا مسبقًا، متسائلة، “هل يعقل أن تتم جمركة البضائع بالسوق الحرّة وعند الصعود على الطائرة وعند النزول من الطائرة، هناك شيء غير مقبول”.
وتابعت، “رغم ذلك استسلمنا وقبلنا بدفع المبلغ عند باب الطائرة، وبعدما ذهبنا للدفع، انصدم الركاب بأن الدفع حصرًا نقدًا (كاش)، وكنت لا أملك سوى مبلغ قليل ما دفعني للاستدانة من شخص كان بجواري”.
الجواز الأغلى في العالم
المكاسب المالية العليا التي يجنيها النظام من المسافرين السوريين، هي عبر استخراج جوازات السفر والتي تصل لأرقام خيالية، جعلت جواز السفر السوري الأغلى في العالم.
وتبلغ رسوم استخراج جواز السفر المستعجل للسوريين في الخارج 800 دولار أمريكي، بينما تبلغ تكلفة استخراج جواز السفر العادي 350 دولارًا.
كما رفع النظام السوري، في كانون الثاني الماضي، رسوم إصدار جواز السفر للسوريين في الداخل، وحسب التسعيرة الجديدة، حددت إدارة الهجرة والجوازات لدى وزارة الداخلية رسوم استخراج جواز السفر العادي بقيمة 312700 ليرة سورية.
فيما حددت رسوم استخراج جواز السفر المستعجل بقيمة 432700 ليرة، وجواز السفر الفوري بنحو مليوني ليرة سورية.
وقال مدير إدارة الهجرة والجوازات، خالد حديد، لصحيفة “الوطن” المحلية، إن مواعيد تسلّم جواز السفر بالدور العادي خلال 45 يومًا، والمستعجل خلال 21 يومًا، والفوري خلال 3 أيام.