أجساد مستعمَرة.. أجساد للانتهاك

tag icon ع ع ع

لمى قنوت

يشكّل العنف الجنسي إحدى الأدوات الحربية في أعمال التطهير العرقي والإبادة وترهيب المجتمعات والأفراد المصنفين كخصوم، ذكورًا وإناثًا، وشلّ وكالتهم السياسية على أجسادهم، وإذلالهم نفسيًا ووصمهم بالعار، وقطع نسلهم في كثير من الأحيان، فاختراق الأجساد، مثلًا، كهدف سياسي، يحقق فرض الإخضاع والهيمنة الآنية والمستقبلية، نتيجة آثاره المؤلمة المديدة. كما أن الاختراق، سواء كان بالتهديد أم بالفعل، أم بكليهما، يخدم منهج الإحلال بمعناه الديموغرافي، ويخدم منهج الردع بغاية الإسكات وكمّ الأفواه، والانتقام من أي فعل مقاوم، وزعزعة المجتمعات، والتهجير القسري بغاية الخلاص من الآخر. ورغم عشرات الوثائق الأممية التي تجرم العنف الجنسي بتعريفه الواسع بالقانون الدولي، الذي تديره الدولة أو يرتكبه المحتل والميليشيات، وتعتبره جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية وعملًا تأسيسيًا للإبادة الجماعية إذا ارتكب بنِية تدمير جماعة كليًا أو جزئيًا، فإنه ما زال الأكثر شيوعًا في صراعات وحروب التنكيل الانتقامي تحت وطأة الاستعمار والاستبداد والصراعات الميليشياوية.

تنبع وطأة العنف الجنسي على المجتمعات والمرتكبة ضد النساء والفتيات من اعتبارهن امتدادًا رمزيًا وماديًا “للأمة”، اللواتي سينجبن الأفراد المدافعين عنها والحافظين لهويتها العرقية والقومية والدينية، وتعتبر أجسادهن مستودعًا للرموز والاستعارات فيتكثف الخطاب والممارسات لحماية الشرف والدفاع عنه، وتسمح ديناميات العلاقات المركبة الواسعة لدى الجماعة، عائلة أم عشيرة…، في منطقتنا، بتماهي الحدود الشخصية للفرد مع صلته بالآخر والهويات الجمعية، فيتوسع الإحساس العام بالمذلة والانكسار الفردي والجمعي.

أما العنف الجنسي ضد الرجال والفتيان خلال النزاعات، وهو الأقل إبلاغًا واستجابة رغم انتشاره، فغالبًا، ما يضعه الناجون في إطار التعذيب والإساءة بدل العنف الجنسي، وهي معانٍ بديلة يستخدمها الناجون لأشكال متنوعة من العنف الجنسي كالاغتصاب والتعقيم القسري بما في ذلك العري القسري، والاستمناء القسري، والعنف التناسلي، وإيلاج أجسام صلبة، والتحسس الجنسي، ناهيك بانتهاكات قد تؤدي إلى العجز الجنسي. والبوح بتلك الجرائم والانتهاكات والتعبير عنها يُعرض ديناميات الهيمنة والسلطة وهرميتها في المجتمعات الأبوية للاختلال، ويُنظر إليها من خلال الإخصاء وانتقاص من الرجولة.

العنف الجنسي المؤسس للإبادة

في فلسطين المحتلة، يتعامل العنف الاستعماري الصهيوني مع أجساد الفلسطينيات كشيء قابل للانتهاك، مدعوم بدعوات تحرض على قتلهن واغتصابهن، كدعوة إيال كريم العسكري في جيش الاحتلال والذي خدم في وحدة المظليات، وعُيّن رئيسًا للحاخامية العسكرية في عام 2016، وأفتى في عام 2012 باغتصاب النساء غير اليهوديات من ذوات المظهر الحسن، “من أجل الحفاظ على لياقة الجنود ومعنوياتهم”، وهذه الفتاوى لا تنحصر بالحاخامات، بل شارك بها، مثلًا، المحاضر والمستشرق مردخاي كيدار في جامعة “بار إيلان” بفلسطين المحتلة، والذي دعا إلى اغتصاب أمهات وأخوات الفلسطينيين لردعهم عن مهاجمتهم.

العنف الجنسي ضد أجساد الفلسطينيين إحدى أدوات الإبادة لعنف الآلة الاستعمارية الإسرائيلية. وقد كشف الفيديو المسرب من معسكر سجن “سيدي تيمان” في صحراء النقب، الذي نشرته القناة 12 الإسرائيلية، وظهر فيه محتجزون من قطاع غزة وهم منبطحون على الأرض ومقيدو الأيدي، ثم اقتربت منهم مجموعة من جنود الاحتياط في جيش الاحتلال، واقتادوا أحدهم واعتدوا عليه جنسيًا، وحاولوا إدخال أسطوانة معدنية في فتحة الشرج أدت إلى ثقب المستقيم وتمزق في القسم السفلي من أمعائه، مع كسور في أضلاعه نتيجة التعذيب، وهددوه إن قدم شكوى.

أبرَزَ تطور هذه الجريمة جانبًا من جوانب الجرائم في سجون الاحتلال وتوحش مجتمع المستوطنين، فبعد أن قررت المحكمة الإسرائيلية إيقاف تسعة جنود وضباط في 29 من تموز للتحقيق، نُشرت مقاطع لسجال في “الكنيست” برر خلاله أعضاء من حزب “الليكود” الاغتصاب، وانطلقت احتجاجات صهيونية عنيفة مدعومة من أعضاء في “الكنيست” وبعض الأحزاب ضد توقيف الجنود بتهمة “الاشتباه في سوء المعاملة” واقتحموا معسكر- سجن “سيدي تيمان”، وشُكِلت منظمة جديدة للدفاع عن المغتصبين، واعتبرت أن جلسة الاستماع في المحكمة العليا سخيفة وهدية لـ”حماس” وزعيمها، وصرح بن غفير، المسؤول عن مصلحة السجون، بأن اعتقال “أفضل أبطالهم” هو أمر مخزٍ.

أطلقت المحكمة سراح خمسة متورطين في جريمة الاغتصاب إلى الحبس المنزلي لمدة عشرة أيام، ريثما ينتهي التحقيق، دون أن توجه لهم أي اتهام، ومنحت القناة 14 الإسرائيلية مساحة حوارية لأحد أبرز مرتكبي جريمة الاغتصاب الجماعي هذه، الجندي الاحتياط مائير بن شتريت، للتطبيع مع العنف الجنسي وتعذيب الفلسطينيين، وتحميل مسؤولية الجريمة للصحفي غاي بلينغ الذي سرب المقطع المصور. ثم ظهر بن شتريت في فيديو على إحدى منصات التواصل الاجتماعي يدعو فيه الإسرائيليين للخروج إلى الشوارع رفضًا للتحقيق معهم، معلنًا استنكاره لأي إجراءات مساءلة لنخبة المجتمع الإسرائيلي، أي لجيشه.

يشير تحدي بن شتريت أمام الكاميرا إلى شيوع الجرائم بحق الفلسطينيين داخل السجون وخارجها من قبل جيش الاحتلال “كالحق” في الاغتصاب والتعذيب اللذين يسيران جنبًا إلى جنب مع اغتصاب الأرض. ولكي نُقدِر تجذر التوحش و”الحق بارتكاب الاغتصاب” في الكيان الصهيوني، فقد تحول الجندي المغتصب بن شتريت إلى “نجم تلفزيوني” في برامج الترفيه الإسرائيلية.

صرح المحلل السياسي أوري غولدبرغ  لقناة “الجزيرة” بأن السؤال في المجتمع الإسرائيلي هو ليس عن الاغتصاب، بل: “هل يمكن لوم إسرائيل أو الإسرائيليين على أي شيء يفعلونه دفاعًا عن الدولة؟”، وأضاف أنه لا يوجد أي فعل، مهما بدا غير أخلاقي للعالم الخارجي، محظور، إذا تم تنفيذه لتعزيز أمن إسرائيل، وقدم مثلًا عن أحد الصحفيين الإسرائيليين لا ينتقد فيه الاغتصاب، بل الطريقة غير المنظمة التي تم بها.

من المستغرب اليوم وجود أصوات تروّج لحل الدولتين غير الواقعي أساسًا على الأرض، وتتوقع من الفلسطينيين، نساء ورجالًا، التحلي بالبراغماتية وضبط النفس والخضوع لوطأة الظلم والاحتلال والتعايش مع هذا المجتمع المتطرف العنيف الذي لا يراهم كبشر، أو تلك الأصوات التي تستنكر أو تتهكم بجميع أشكال الرفض والمقاومة المشروعة في الأعراف التاريخية وفي القانون الدولي لكل شعوب العالم الواقعة تحت الاحتلال.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة