مسؤولية وسائل الإعلام في “مقال الرأي”

tag icon ع ع ع

علي عيد

يعتبر “مقال الرأي” من الأنواع الإعلامية التي تتيح فيها وسائل الإعلام المجال لأشخاص معروفين، أو خبراء من ذوي الاختصاصات، للتعبير عن آرائهم وأفكارهم حيال قضايا مختلفة.

ومن إشكاليات مقال الرأي أنه قد يخرج عن المألوف أو الموضوعي، أو يتضمن اتهامات، أو يستخدم لغة عدائية، أو خطاب كراهية أو تجديف، أو يقدم معلومات خاطئة تتسبب بضرر مادي أو معنوي.

وخلاف ما سبق، فقد يستفز كاتب الرأي جمهور الوسيلة الإعلامية نفسها، متسببًا بضرر يعود عليها، إن لم يكن قانونيًا فقد يكون في موقف الجمهور منها، وبالتالي حجم متابعتها أو تصديقها، حتى ولو ذيّلت مقال الرأي بعبارات تفيد بعدم مسؤوليتها عن هذا المحتوى.

وسبق أن كتبت في ذات الموضوع، أن مقال الرأي هو أرفع مستوى للكتابة، وأكثرها حساسية، على اعتبار أن كاتبه يجب أن يتمتع بالخبرة الكافية في المجال الذي سيكتب فيه، فإن كان مقال الرأي يمثل افتتاحية الوسيلة الإعلامية، فهو يعبر عن موقفها من قضية بالغة الحساسية، ويجب على من يكتبه أن يكون صانع سياسات داخل الوسيلة الإعلامية، وقلمًا عارفًا وواسع الاطلاع.

وميزت وقتها بين عمود أو مقال الرأي الافتتاحي، ومقال الرأي الخاص بخبراء ومتخصصين، لكن هناك أمرًا آخر يتعلق بالمسؤولية القانونية المهنية والأخلاقية، وتبعات عمود الرأي على الوسيلة الناشرة، وحجم مسؤوليتها، أو أحقية حججها بالتنصل.

لا يتحمل الجمهور مسؤولية موقفه، ولا يمكن محاسبته على هذا الموقف، على اعتبار أن الجمهور يقرأ من الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية ذاتها مضمونًا يراه مخالفًا لما يعتقد، أو يمس بعاداته أو قيمه، أو حتى توجهاته السياسية والثقافية.

لا يقف الحدّ عند عبارة تنصل تضعها الوسيلة الإعلامية لكي تتجنب مساءلة القانونية، فهي عندما تفسح المجال لكاتب رأي متطرف في أفكاره تكون قد أسهمت في نشر محتوى نابع من قناعات ذلك الشخص بشكل أو بآخر، وإذا لم تلحقها تبعات قانونية من وراء مقال الرأي فهي مطالبة مهنيًا باختيار كتّابها، وتخصيص مدقّقي معلومات لفحص المحتوى، كما يجب عليها تنظيم عقود واضحة تفصّل حجم مسؤوليتها وحجم مسؤولية الكاتب، وكذلك نوع الخدمة التي تريدها منه.

قد يجادل البعض في أن بعض المعايير هي نوع من تقييد الحرية، لكن يمكن تجاوز هذه الجزئية بتضمين نص العقد ما ينص على حق الكاتب في التعبير عن رأيه المدعوم بالخبرة، مع عدم تجاوز القواعد الأخلاقية المنصوص عليها في قوانين ضمنتها ونصت عليها التشريعات الدولية، ومنها الأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية، وكذلك مدونات السلوك والمواثيق الأخلاقية للصحف ووسائل الإعلام.

لا تتحمل الوسيلة الإعلامية، في بعض التشريعات، مسؤولية محتوى مقال الرأي من الجهة القانونية، ومثال هذا ما ورد في بيان “محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي”، لوكسمبورج، “رقم 99/21” الصادر في 10 من حزيران 2021، بخصوص “الحكم في القضية 65/20-C” المتعلقة بمقال رأي في صحيفة “Kronen-Zeitung” النمساوية.

نشرت الصحيفة، في 31 من تشرين الثاني 2016، مقالًا حول فوائد ضمادات الفجل المبشور في “تخفيف آلام الروماتيزم”، بتوقيع أحد أعضاء إحدى الطوائف الدينية، والذي بصفته خبيرًا في مجال طب الأعشاب، يقدم نصائح مجانية في عمود تنشره الصحيفة يوميًا.

كان الخطأ يتعلق بفترة وضع الضماد، إذ أخطأ كاتب المقال ناصحًا وضعه لمدة ساعتين إلى خمس ساعات، بينما المعلومة الصحيحة هي دقيقتان إلى خمس دقائق.

النصيحة تسببت بتسمم جلدي لإحدى السيدات، ما دفعها لتقديم شكوى أمام المحكمة، مطالبة بالتعويض عن أضرار جسدية لحقت بها.

المحكمة في بيانها أخلت مسؤولية الصحيفة على اعتبار أن الخدمة الطبية والخطأ المتعلق بها ليس من اختصاص الصحيفة، أو “الخصائص المتأصلة للصحيفة المطبوعة” التي تسمح بتقييم عيوب المنتج.

قرار المحكمة وإن أعفى الصحيفة لكنه أبقى على الحق في النظر بالقضية لجهة اختصاص أخرى، معنية بأنظمة تختص في المسائل التعاقدية بشأن عيوب المنتج.

تشريعات أخرى لا تعفي الناشرين قانونيًا، وقد تفرض عليهم عقوبات تصل حدّ السجن، ومثاله قرار محكمة إيطالية، في 17 من كانون الأول 2004، نص على سجن مدير صحيفة “Il Giornale” الإيطالية لمدة أربعة أشهر مع وقف التنفيذ، بتهمة التشهير على خلفية مقال رأي كتبه أحد أعضاء مجلس الشيوخ الإيطالي في الصحيفة، على الرغم من اتهام الحكم بأنه يخالف اتفاقية أوروبية تضمن حرية التعبير.

المثالان السابقان لمسؤولية الصحافة عن مضمون مقالات الرأي، ليس الهدف منه الدعوة للحدّ من الحريات، أو تكبيل عمل الصحافة، بل علينا أن نطالب دائمًا بالمزيد من الحصانة للصحافة المسؤولة، والحفاظ على مساحة واسعة من الحرية كي تقوم بدورها الأخلاقي، لكن في ذات الوقت، يفتح هذا المقال باب النقاش في مسألة مقال الرأي والإجراءات التي يجب أن تتبعها وسائل الإعلام لضمان عدم استخدام صفحاتها لتمرير أفكار “خبيثة” محتملة، أو إثارة الرأي العام بصورة لأغراض “انتهازية”، أو التسبب بالضرر للجمهور أو جزء منه، أو للجهة الناشرة.. وللحديث بقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة