جنى العيسى | علي درويش | خالد الجرعتلي
يضطر عدد من مزارعي محصول القمح في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا إلى هجرة مهنتهم، مدفوعين بعدة عوامل، منها يتعلق بتكاليف المحصول التي لم تعد تتناسب خلال السنوات الماضية مع أسعار المبيع التي تحددها مختلف الجهات المسيطرة، إضافة إلى عوامل بيئية تتمثل بنشوب حرائق على مساحات واسعة تلتهم محصولهم، ما يجبرهم على التوجه نحو زراعات أقل تكلفة.
تسلّط عنب بلدي الضوء على مشكلات فلاحي القمح في محافظة الحسكة، والأسباب التي دفعتهم إلى هجرة الزراعة، وخياراتهم في هذا السياق، فضلًا عن أثر ذلك على الأمن الغذائي في سوريا ككل.
هجرة الألفية..
عوامل أسهمت بتراجع الزراعة
أسهمت العديد من العوامل بهجرة الفلاحين أراضيهم في منطقة الجزيرة السورية شمال شرقي سوريا وخاصة محافظة الحسكة، منها ما هو طبيعي كالعوامل البيئية والمناخية، وآخر بسبب عدم الكفاءة الحكومية في إدارة هذا الملف، بل ضاعفت الإجراءات الحكومية من الآثار السلبية.
هذه العوامل استمرت لعقود سبقت الثورة السورية، لكن بعد العام 2011، ظهرت أسباب أخرى فاقمت من مشكلات الفلاحين، كعدم الاستقرار السياسي، وتبدل القوى المسيطرة والمعارك العسكرية والنزوح.
الخسائر لم تتوقف عند هذا الحد، فالأراضي الزراعية فقدت جزءًا من اليد العاملة الشابة نتيجة الهجرة أو التجنيد أو الموت، وخسرت أيضًا الخبرات والكوادر التقنية التي تحتاج إلى وقت طويل لترميم النقص الحاصل.
300 ألف شخص تركوا أراضيهم
في دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) بعنوان “الأغذية والزراعة- الهجرة والزراعة والتنمية”، نشرت في عام 2018، تناولت في الصفحة الـ71 أثر سياسات تدخل النظام السوري في تدهور الموارد الطبيعية، وذكرت أنه لعب دورًا سلبيًا كبيرًا في ذلك.
وأوضحت الدراسة أثر سياسات النظام بتدهور المحاصيل الزراعية بعدة عوامل هي:
1- شجّع زراعة الحبوب على حساب المراعي، ما أدى إلى امتداد المحاصيل الزراعية إلى المناطق القاحلة وشبه القاحلة، التي لا يتجاوز معدل هطول الأمطار فيها 200 ملمتر سنويًا.
2- التركيز والتوجه إلى المحاصيل كثيفة الري (القطن والقمح) أدى إلى انهيار مستويات المياه الجوفية، وقلّص بشكل كبير من قدرة المزارعين على التكيف عندما تعرض الشرق الأدنى للجفاف الشديد في الفترة بين 2007 و2009.
3- ما زاد من الأوضاع سوءًا في فترة الجفاف إيقاف الحكومة عام 2008 دعمها للمازوت، وهو الوقود الرئيس المستخدم في الري، ورفعت سعره ثلاثة أضعاف، من 8 إلى 25 ليرة سورية (0.14 إلى 0.53 دولار أمريكي)، أسفر ذلك عن ارتفاع الأسعار بين عشية وضحاها بنسبة 300%.
كان للجفاف أثر كبير على المزارعين في سوريا بسبب ما رافقه من إجراءات حكومية سابقة ومتزامنة مع الجفاف، لكن كان للجفاف نفسه “آثار ضئيلة على بلدان أخرى في المنطقة”، بحسب “فاو”.
وكل ذلك أدى إلى نزوح حوالي 300 ألف شخص في سوريا من المناطق الريفية إلى المدن، وبلغت نسبة هجرة الأهالي من قرى الحسكة ودير الزور بين 60 و70%.
السياسات عامل بارز
في دراسة لمركز “حرمون للدراسات المعاصرة” بعنوان” الزراعة سلة الغذاء السورية من التراجع إلى الكارثة”، نشرت عام 2017، ذكرت أيضًا أن الجفاف حمل مسؤولية ما حصل بين 2006 و2008 وصولًا إلى 2011، لكن “الحقيقة أن الجفاف لا يتحمل سوى جزء يسير” مما حصل.
والجزء الأكبر من المسؤولية، بحسب الدراسة، يعود إلى طبيعة السياسات المتبعة وشكلها والتوجه الاقتصادي العام، وتجزئة الملكية بحسب قوانين الإرث السورية التي أسهمت في تفتت الملكية وجعل الحيازات صغيرة وغير مجدية للزراعة في كثير من المناطق.
يضاف إليها طبيعة علاقة المؤسسات البيروقراطية بالفلاحين، من ناحية الحصول على البذور والأسمدة والأدوية الزراعية وآليات تسلّم المحصولات وتصنيفها.
الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، يرى أن تدهور القطاع الزراعي بدأ منذ عام 2000 وليس في 2006 كما يعتقد البعض.
وقال السيد عمر في مقال له، إن تطبيق سياسة السوق الاجتماعي سببت “لبرلة” الاقتصاد السوري بسرعة ودون تمهيد، ما أدى إلى انخفاض دور الإنتاج المادي وارتفاع سوق الخدمات، وهذا الأمر انسحب على الإنتاج الزراعي.
وانعكس تراجع الاهتمام الحكومي بالزراعة بعدة قرارات في فترة الجفاف التي تطلبت إجراءات حكومية استثنائية، إلا أن الحكومة اتخذت جملة قرارات سلبية.
بعد 2011.. الهجرة تتواصل
تأثرت محافظة الحسكة كغيرها من المحافظات السورية بالحالة الأمنية والعسكرية خاصة بعد 2012، الذي شهد تبدل السيطرة العسكرية لمصلحة أحزاب كردية بزعامة حزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، بينما بقيت مربعات أمنية في مدينتي الحسكة والقامشلي بيد النظام السوري،
شكّل “الاتحاد الديمقراطي” نواة “الإدارة الذاتية الديمقراطية المؤقتة” في تشرين الثاني 2013، ثم تأسست “الإدارة الذاتية” مطلع العام 2014.
أصبحت بعدها “الإدارة الذاتية” هي المتحكم الإداري الفعلي، وزادت من تحكمها في المنطقة إداريًا وعسكريًا واقتصاديًا بعد القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، الذي كان آخر وجود له ضمن القرى أو المدن أو البلدات السورية في آذار 2019، أي أن المنطقة شهدت نوعًا من عدم الاستقرار السياسي، وتبدل القوى المسيطرة والمعارك العسكرية والنزوح.
تبع كل ذلك عدم اتخاذ سلطات الأمر الواقع الحلول الفعالة، وأخيرًا فترة الجفاف خلال الأعوام 2020 و2021 و2022، وما تخللها من حرائق أرهقت كاهل المزارعين بعد كل ما عانوه.
وبسبب الجفاف انخفض الإنتاج الزراعي في شمال شرقي سوريا 80% عام 2022 مقارنة بموسم 2020، قبل بدء الجفاف، بحسب ما نقله موقع “المونيتور” الأمريكي عن منظمة “Mercy Corps” المتخصصة بالإغاثة بعد الكوارث وإدارة آثار الصراع وتغيير المناخ.
أما في الأعوام السابقة، فبلغ مثلًا إنتاج القمح عام 2011 حوالي 3.85 مليون طن مع وسطي استهلاك محلي 2.5 مليون طن، مما أتاح فائضًا للتصدير يقدّر بـ1.35 مليون طن، في عام 2018 انخفض بشكل حاد ليصل إلى 1.2 مليون طن أي ما يغطي أقل من نصف الطلب المحلي، بحسب تقرير لمنظمة “IMPACT” للأبحاث والتنمية في المجتمع المدني.
الحسكة والرقة من أهم مناطق زراعة القمح في سوريا، بلغ إنتاجهما عام 2011 حوالي 1.76 مليون طن أي 45% من إجمالي الإنتاج في سوريا، لينخفض عام 2018 إلى حدود نصف مليون طن بنسبة 42% من الإجمالي، وبمعدل انخفاض بلغ 71%.
وفي عام 2020، ارتفع الإنتاج في هاتين المحافظتين مع تحسن موسم الأمطار ليصل إلى حوالي 1.1 مليون طن مع ارتفاع إنتاج القمح في إجمالي المناطق السورية إلى2.7 مليون طن.
مزارعون: التكاليف تقلص الإنتاج
محمد الخضير، مزارع من ريف القامشلي، يملك 60 دونمًا يزرعها عادة بالقمح في شرق الخابور، قال لعنب بلدي، إن مساحات الأراضي المزروعة بالقمح تراجعت في المنطقة بشكل كبير، إذ قلّ الإنتاج إلى نحو نصف المعتاد قبل 2011.
وأوضح محمد أن تراجع الإنتاج له عدة أسباب، أبرزها تكاليف الزراعة من مياه أو محروقات أو أسمدة، ما دفع بعض المزارعين لزراعات أخرى أقل تكلفة، كالبطيخ أو الكمون أو حتى زراعة القمح البعلي بدلًا من المروي.
حامد سلطان، مزارع يملك أرضًا زراعية شرق الخابور، أشار أيضًا إلى أن تراجع المساحات المزروعة بالقمح يعود إلى عدم التفات الجهات المعنية من قبل “هيئة الزراعة” لدعم الفلاحين، فضلًا عن انخفاض منسوب المياه في نهر الخابور إلى جانب الجفاف، ما دفع الفلاحين نحو النباتات العطرية كالكمون وحبة البركة وغيرهما من الزراعات التي لا تحتاج إلى تكاليف كبيرة أو يد عاملة.
وحول الحرائق التي تستهدف محصول القمح وانتشارها بشكل واسع خلال السنوات الماضية، اتفق المزارعان محمد الخضير وحامد سلطان على أن بعض الحرائق كانت مفتعلة، بعضها بدوافع كيدية من قبل أبناء المنطقة أنفسهم.
سياسات تفاقم المشكلة
سياسات “الإدارة الذاتية” في إدارة الملف الزراعي، جعلت الزراعة تتراجع “بدرجات مخيفة”، بدءًا من عدم ثبات السعر، ومخاوف المجتمع المحلي من الشراء بالعملة السورية، مقابل بيع الأسمدة والمواد الضرورية للزراعة بالدولار، وصولًا إلى عدم تمكن المزارعين من زراعة القطن، بحسب دراسة لمركز “حرمون للدراسات المعاصرة”.
تحدث مزارعون في محافظة الحسكة لعنب بلدي في وقت سابق عن مجموعة من المشكلات والتحديات الموسمية التي يواجهونها خلال السنوات الأخيرة، دفعت بعضهم للتفكير بالعدول عن الزراعة مؤقتًا.
من هذه المشكلات، ارتفاع أسعار الحراثة، وعدم وجود آلية تنظم أجورها وتحدّ من استغلال أصحاب الجرارات للفلاحين، بذريعة تدهور قيمة الليرة السورية وغلاء المحروقات وقطع الغيار وغيرها من الأسباب.
بالمقابل، ذكر أصحاب جرارات وأدوات زراعية ممن التقتهم عنب بلدي، أن رفع أجرة الفلاحة سببه الجهات المعنية المسؤولة عن توفير ما يلزم من محروقات وغيرها لأصحاب الجرارات بأسعار “مدعومة” لتكون العملية مجدية لكلا الطرفين (المزارع وأصحاب الجرارات والآليات الزراعية).
على العكس، ترفع “الإدارة الذاتية” سعر المحروقات بشكل دوري، دون أن تراعي تأثيره على الفلاحين، ما يؤدي إلى رفع جميع التكاليف الزراعية على الفلاح، وهو ما قوبل باحتجاجات في مناطق سيطرتها.
ومن المشكلات الأخرى، تأخر هيئة الزراعة التابعة لـ”الإدارة الذاتية” في دفع المستحقات من قيمة المحاصيل الموردة لعشرات المزارعين.
في موسم 2024، تأخرت “الإدارة الذاتية” بتسعير المحاصيل الزراعية رغم الموسم الوفير الذي كان يرجو فيه الفلاحون تعويض خسارتهم نتيجة الجفاف في السنوات السابقة، ما عرض المزارعين لاستغلال تجار الحبوب من القمح والشعير.
ولاقى التسعير لاحقًا اعتراضًا من قبل الفلاحين، واعتبروه ظالمًا ولا يتناسب مع التكاليف.
أيضًا يواجه مزارعو محافظة الحسكة تحديات عديدة في التجهيز للمواسم الزراعية، في ظل الخسائر التي يمنى بها الفلاحون خاصة أصحاب الزراعات البعلية، الذين تعرضوا لخسائر فادحة وديون استنفدت “مدخراتهم من الحبوب والأموال” المخصصة للزراعة.
وتضع “مؤسسة إكثار البذار” التابعة لـ”الإدارة الذاتية” شروطًا “صعبة” لقبول التعاقد مع المزارعين، وتزويدهم بالبذار “دينًا” بسعر مدعوم يبلغ 2300 ليرة لكل كيلوغرام، مع 200 كيلوغرام من السماد للهكتار الواحد.
تُمنح العقود للمزارعين الذين لديهم آبار زراعية “حصرًا”، وبسندات كفالة وكفلاء من المتعاقدين ورخصة زراعة مسبقة من “مديرية الزراعة”، ومن الصعب أن يحصل المزارعون الذي يعتمدون على مياه الأمطار في ري محاصيلهم (زراعة بعلية) على عقود “مؤسسة إكثار البذار”.
وزاد من صعوبة الوضع منع “هيئة الزراعة والري” المزارعين من حفر الآبار الزراعية السطحية والعميقة في مناطق سيطرتها، اعتبارًا من 1 من تشرين الثاني 2022، تحت طائلة “المساءلة القانونية وحجز الحفارة” بحجة “الحفاظ على مخزون المياه الجوفية”.
للتلوث والحرائق والمياه نصيب
يضاف إلى كل تلك العوامل، الثلوث النفطي للتربة، إذ يعتبر التلوث النفطي في مناطق الجزيرة السورية “أحد العوامل الأساسية لتدهور خصوبة التربة”، بحسب دراسة لـ”المجلة السورية للبحوث الزراعية” منشورة عام 2022.
والتهمت الحرائق، خاصة عامي 2019 و2020، آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية قبيل حصدها.
مديرية الأرصاد الجوية حذرت حينها من نشوب المزيد من الحرائق بسبب تأثر البلاد بمرتفع جوي، فارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستوى الرطوبة يسببان حرائق وخاصة مع اقتراب مواسم الحصاد.
وبحسب ما نقلته منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” عن مسؤول هيئة الاقتصاد والزراعة في المجلس التنفيذي التابع لـ”الإدارة الذاتية” في حزيران 2019، سلمان بارودو، فإن الحرائق التهمت أكثر من 450 ألف دونم من الأراضي المزروعة بالقمح في الفترة بين 20 من أيار و14 من حزيران 2019، في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”.
تبادلت الأطراف الاتهامات بافتعال الحرائق في الحسكة، فـ”الإدارة الذاتية” اتهمت تركيا بقصف متعمد للحقول، كما اتهمت النظام أيضًا بافتعالها كونه منافسًا لها في تسلّم مردود القمح.
فيما نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) عن فلاحين أن عناصر “قسد” هم من أشعلوا الحرائق “ضمن سياسة التضييق التي تتبعها هذه الميليشيات على الأهالي لدفعهم إلى العمل والتعامل معها ومنعهم من تسليم محصولهم للمراكز الحكومية”.
أيضًا، تبنى تنظيم “الدولة الإسلامية” إحراق أراضٍ زراعية في سوريا والعراق، مبررًا ذلك بأنها تتبع لمن يصفهم بـ”المرتدين”.
تراجع منسوب المياه كان له تأثيره على الزراعة في الحسكة، وبشكل خاص نهر الخابور، الذي ينبع من الأراضي التركية، وروافده كنهر جقجق ونهر جراح، ولم يقتصر على الحسكة فقط بل شمل كل منطقة الجزيرة، نتيجة تراجع مستوى منسوب نهر الفرات أيضًا.
الحسكة تضم 10 سدود موزعة بشكل رئيس على نهري الخابور ودجلة وفروعه، هي “الحسكة الجنوبي” (الباسل) و”الحسكة الشرقي” و”الجوادية” و”معشوق” و”باب الحديد” و”المنصورة” و”الحاكمية” و”الجراحي” و”الجوادية” و”سفان”.
“الإدارة الذاتية” تحمل باستمرار مسؤولية نقص مياه السدود والأنهار لتركيا، خصوصًا نهر الفرات كون الأنهار تنبع من أراضيها، وتصفه بـ”الإغلاق المتعمد” لمياه الأنهار، ما يؤدي إلى توقف تشغيل سدود في مناطق سيطرتها كسد “تشرين”.
فرص العمل تتأثر.. التجنيد خيار
تمثّل الأرض الزراعية لمجتمع شمال شرقي سوريا قيمة معنوية ومادية، في المنطقة المعروفة بطبيعتها الريفية، لكن سنوات الحرب دفعت المزارعين لفك ارتباطهم بأرضهم مكرهين، ودفعت بعضهم تحت الضغوط المادية والأمنية لبيع أجزاء منها، أو كلها، أو تحويل اهتمامهم من محصول لطالما داوموا على زراعته على مدى سنوات، لمحصول آخر أكثر ربحًا.
وتباينت آراء المزارعين ممن قابلتهم عنب بلدي ويقطنون شرق نهر الخابور بريف محافظة الحسكة، إذ يرى بعضهم أن الفقر الذي تعاني منه المنطقة هو جزء من حالة أعم تعاني منها المحافظات السورية، في حين يميل آخرون لتحميل المسؤولية لـ”الإدارة الذاتية” وجناحها العسكري “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تسيطر على المنطقة، وتتحكم بمفاصل حياة الناس فيها.
وفي بلدة تل حميس الواقعة شرق نهر الخابور، وهي بلدة يعيش معظم سكانها من مردودهم السنوي من المحاصيل الزراعية، يعيش صلاح، وهو مزارع سابق، ومجند حالي في “قسد”، قال لعنب بلدي، إنه دُفع لترك الزراعة التي توارثها أفراد عائلته منذ سنوات، بسبب نقص المياه، وتراجع الاهتمام بالزراعة في المنطقة، والتوجه للعمل في القطاع العسكري، واعتماده كمصدر دخل له.
وأضاف لعنب بلدي أنه انخرط في العمل العسكري منذ أكثر من عامين مع أشقائه بعد الخسائر التي تكبدوها خلال موسم القمح عام 2022، وموسم القطن الذي تبعه بسبب نقص المياه.
واختار صلاح وأشقاؤه العمل في الجانب العسكري بسبب قلة فرص العمل، إذ لا يوجد ما يفعله أبناء تل حميس سوى الزراعة، وفق تعبيره، ومع غيابها، لم يكن أمامهم سوى التطوع لدى “قسد” بموجب عقد مدته عامان، وبراتب 3.5 مليون ليرة سورية لكل منهم.
سياسة متعمدة أم تراكم
في الوقت الذي يعتقد فيه بعض أبناء المنطقة، أن “الإدارة الذاتية” تجبرهم على ترك أراضيهم الزراعية عبر تجاهل تقديم الخدمات، أرجع آخرون، وعاملون في قطاع الزراعة، الأسباب إلى الجفاف، وأزمات نقص المياه التي تضرب المنطقة بين الحين والآخر.
المهندس الزراعي طارق العايد، وهو رئيس وحدة الإرشاد الزراعي في الحسكة، قال لعنب بلدي، إن جفاف نهر الخابور انعكس بشكل سلبي على المزارعين بين ضفتي النهر.
وأضاف أن قلة المياه تؤدي إلى انخفاض في إنتاجية المحاصيل وجودتها، ويواجه المزارعون هناك صعوبة في تأمين المياه لري أراضيهم، ما يضطرهم لاستخدام طرق بديلة قد تكون مكلفة أو غير فعالة مثل حفر الآبار التي تكون عادة مخالفة للقانون المحلي.
المهندس أشار إلى أن خطورة جفاف الخابور خلال سنوات الجفاف المتعاقبة تكمن بتدهور التربة وزيادة ملوحتها، ما يقلل من خصوبتها.
وإلى جانب المحاصيل الاستراتيجية كالقمح والشعير والقطن، كانت هناك بساتين للأشجار المثمرة ومساحات واسعة تزرع بالخضار على ضفتي الخابور، لكن عدد هذه الزراعات تناقص بشكل كبير خلال السنوات القليلة الماضية، إذ يكاد تنوع الزراعة يختفي بالمنطقة، بسبب انخفاض منسوب المياه بنهر الخابور.
المهندس، الذي يقيم في محافظة الحسكة، قال لعنب بلدي، إن المزارع لا يعاني فقط من مسألة الجفاف بل من تدني الدعم بالمحروقات، وعدم توفرها في الكثير من الأحيان، فمياه النهر تحتاج أيضًا إلى محركات ومضخات لنقلها إلى الأراضي المجاورة، وهو غير متوفر مع غياب الدعم بالمحروقات.
واعتبر المزارع أن صعوبة نقل المياه دفعت العديد من المزارعين للتخلي عن فكرة الزراعة كمشروع اقتصادي، بعد الخسائر المتوالية التي تحملوها على مدار السنوات، وغياب أي تشريعات أو خطط لدعم المزارعين على ضفتي الخابور من قبل الجهات المعنية.
الحرائق، والجفاف، ونقص المياه والمحروقات، وتردي الخدمات الزراعية، كلها شكلت عوائق أمام المزارعين، وفق ما قاله المزارع صلاح لعنب بلدي، لكن أبناء المنطقة دائمًا ما ينظرون إلى هذه الحوادث على أنها ممتدة، تهدف لدفعهم نحو ترك أراضيهم.
وتظهر بيانات “البنك الدولي” أن نسبة العاملين بالزراعة في سوريا بلغت في عام 2022 نحو 15.5% من مجمل نسبة العاملين في كل المجالات، بينما كانت عام 2000 تصل إلى 32.89%.
تعويض الخسائر؟
في الوقت الذي تواجه فيه “الإدارة الذاتية” اتهامات من أبناء المنطقة بإهمال القطاع الزراعي عمدًا، اتجهت الأخيرة للحديث عن تحركاتها لتعويض المزارعين، إذ قالت في 26 من آب الماضي، إنها تنوي تعويض المزارعين المتضررين من الحرائق في مناطق سيطرتها، إلى جانب إجراءات في القطاع الزراعي لدعم الفلاحين.
وأعلنت هيئة الزراعة التابعة لـ”الإدارة”، أنها ستعوض المزارعين ببذار القمح مجانًا وحسب الترخيص الزراعي لموسم 2024-2025.
وجاء هذا الإعلان ضمن التوصيات التي صدرت عن الاجتماع السنوي لهيئة الزراعة والري في “الإدارة الذاتية”، وانتهى الاجتماع بعدة مخرجات، أبرزها تحديد مبيع بذار القمح عن طريق مؤسسة إكثار البذار للموسم الزراعي 2024-2025 بمبلغ قدره 225 دولارًا للطن الواحد، إلى جانب شراء محصول القطن من المزارعين للموسم الزراعي الحالي، بناء على تسعيرة تحدد مطلع أيلول.
مكاسب لـ”الإدارة”
الباحث المتخصص في شؤون شمال شرقي سوريا بمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” سامر الأحمد، قال لعنب بلدي، إنه قبل سنتين، كان من الممكن النظر إلى الأحداث على أنها متعمدة خصوصًا مع حجم الحرائق التي طالت المحاصيل الزراعية في محافظة الحسكة، لكن لاحقًا، انخفضت هذه الحرائق، في حين بقيت عوامل أخرى مؤثرة.
وأضاف الباحث الذي ينحدر من محافظة الحسكة، أنه لا يمكن النظر إلى القضية على أنها محاولة إفقار للمزارعين، بقدر ما هي بحث عن الفوائد دون النظر إلى وضع المزارعين من قبل سلطات المنطقة (الإدارة الذاتية).
وأشار إلى أن محاولات الاستفادة يمكن ملاحظتها في بعض التفاصيل مثل تحديد سعر القمح خلال موسم العام الحالي.
في أيار الماضي، حددت “هيئة الزراعة والري” في “الإدارة الذاتية” سعر شراء مادة القمح من الفلاحين للموسم الزراعي 2023-2024، ما تسبب باحتجاجات بالمنطقة رفضًا للتسعيرة التي اعتبروها منخفضة.
وبحسب القرار الصادر عن “الهيئة” حينها، بلغ سعر شراء المادة 31 سنتًا للكيلوغرام، ويخضع لنظام الدرجات العادية، في حين حددته العام الماضي بسعر 43 سنتًا للكمية نفسها.
وعلى خلفية سعر القمح، اعتصم مزارعو منطقة عامودا وسط المدينة احتجاجًا على قرار “الإدارة الذاتية” بتحديد تسعيرة القمح، وامتدت الاحتجاجات إلى مدن وقرى أخرى، لكن “الإدارة” لم تتراجع عن قرارها.
ويرى الباحث سامر الأحمد، أن “الإدارة” تحاول تحقيق أكبر قدر من الفائدة، حتى ولو كانت على حساب المزارعين، إذ حصرت بيع المحاصيل بمؤسساتها الزراعية، حتى تتمكن من إعادة بيعها لأطراف أخرى، هي النظام والمعارضة بمعظم الأحيان، بهدف تحقيق مرابح.
ولا يمكن حصر هذه السياسية بمحصول القمح وحسب، وفق الأحمد، إذ اتجه بعض المزارعين لزراعة الكمون خلال العام الماضي، وتمكنوا من تحقيق مكاسب اقتصادية جيدة، وخلال العام الحالي، أعادوا زراعة أرضهم بالموسم نفسه، لكن الأحداث الأمنية التي شهدتها المنطقة دفعت “الإدارة الذاتية” لإغلاق منافذها البرية مع النظام، ما حد من إمكانية تصدير هذه المحاصيل والتجارة بها، وانخفضت مرابح التجار للنصف تقريبًا.
ويرى الباحث سامر الأحمد أن الأزمة التي تشهدها مناطق شمال شرقي سوريا ناتجة عن سياسات اقتصادية تضمن لـ”الإدارة الذاتية” ربحًا بهامش كبير، وسيطرة مركزية عالية على الموارد الاقتصادية كافة.
وأضاف لعنب بلدي أن سياسة “الإدارة الذاتية” الاقتصادية تجاه المزارعين قد تنتج عنها حالة من الإفقار في المنطقة، لكن الحالة الاقتصادية للسكان لا تعتبر إحدى نقاط الاهتمام بالنسبة لسلطات الأمر الواقع في سوريا، ومنها “الإدارة”.
التدخلات قد تنقذ الواقع..
الأمن الغذائي على المحك
تراجع المساحات المزروعة بالقمح واستمرار سياسات الجهات المسيطرة في سوريا من ناحية عدم دعم الفلاحين أو تعويض خسائرهم بالشكل الذي يضمن لهم عائدًا ربحيًا جيدًا، يفتحان الباب أمام التساؤلات حول مستقبل الأمن الغذائي للبلاد تأثرًا بهذه الحالة.
تمثل مادة القمح الغذاء الاستراتيجي الأول في السلة السورية، وتدخل فيها عشرات المنتجات الغذائية أبرزها مادة الطحين الذي يصنع الخبز منه.
وبالتالي فإن تناقص المساحات المزروعة للقمح في شمال شرقي سوريا ستكون له آثار سلبية على تناقص مادة الطحين، ويدفع المنطقة وسوريا بالعموم نحو استيرادها بشكل أكبر من الخارج، وهذا يعني الحاجة لمزيد من الدولارات لتمويل الواردات، ويعني أيضًا تراجع قيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وفق ما يرى الباحث الاقتصادي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” مناف قومان.
وأضاف قومان، في حديث إلى عنب بلدي، أن الأثر سيطول الأمن الغذائي بشكل مباشر، والنتائج ستكون العام المقبل أو الذي بعده على أبعد تقدير مع تناقص كميات القمح المستلمة من قبل الفلاحين وتناقص المخزون الاستراتيجي.
المشكلة برأيي ليست في الأمن الغذائي، بقدر ما هي في إدارة الأمن الغذائي.
من له مصلحة في محاربة الفلاحين بزراعتهم، ومن اتخذ قرارات كهذه منفرة للفلاحين، ودفعهم نحو ترك الأراضي والعدول عن زراعة القمح، ألم يكن يعرف هذه النتائج؟
معظم المشكلات التي بات السوريون يعانون منها تأتي بسبب من يدير الموارد ويصدر القرارات الاقتصادية السيئة.
مناف قومان
باحث اقتصادي
الدكتور في الاقتصاد الزراعي بجامعة “الزيتونة” الدولية سليم النابلسي، قال لعنب بلدي، إن تراجع المساحات المزروعة بالقمح سيؤدي إلى العديد من المخاطر والإشكاليات، أبرزها تراجع الواقع الزراعي في المنطقة، ما يفرض الحاجة إلى جملة من الإجراءات والمبادرات التي تحسن هذا الواقع والمتعلقة بالتربة والمياه ومدخلات الإنتاج.
هذا التراجع الحالي سيؤدي بشكل قطعي إلى تراجع مؤشرات الاكتفاء الذاتي التي يتأثر بها الفقراء والأطفال والنساء والفئات المهمشة في المجتمع، ما سيزيد الحاجة إلى برامج الدعم الغذائي التي تطلقها المنظمات الإنسانية.
ويؤدي الاستمرار في تراجع المحصول دون وجود تدخلات حكومية وأهلية، وفق النابلسي، إلى حدوث ارتفاع في أسعار الخبز والطحين ومشتقاته، وبالتالي حدوث خلل في منظومة الأمن والسلم المجتمعي، وقد تأتي بعد هذه المرحلة المجاعة.
في ظل هذه المعطيات تحتاج المنطقة، بحسب ما أشار إليه الدكتور سليم النابلسي، إلى برامج فعالة لزيادة مساحات الأراضي المزروعة بالقمح كمًا ونوعًا من ناحية الأصناف والكميات، ولا بد هنا من برامج مدعومة من الهيئات الحكومية والمنظمات المحلية والدولية.
وتبرز الحاجة بشكل كبير لدعم مزارعي القمح بأشكاله الكثيرة بدءًا من دعم مستلزمات الإنتاج من جرارات ومحاريث، ومدخلات الإنتاج كالبذار غزيرة الإنتاج المقاومة للأمراض والإصابات والأسمدة، فضلًا عن توفير مياه الري ودعم أسعار المحروقات خاصة للمشاريع التي تعمل على الآبار الارتوازية.
آخر هذه التدخلات الحكومية تتمثل بشراء القمح من المزارعين بأسعار تفضيلية ومدعومة، تضمن استمرارية الفلاحين لسنوات مقبلة عديدة.
آن الأوان في سوريا لإطلاق برنامج أو مشروع أو حتى منظمة متخصصة في التمويل الزراعي، لأن عودة رأس المال بطيئة جدًا في هذا النوع من المحاصيل، ومن خلال مشروع كهذا يجب توجيه السياسات بحسب احتياجات المنطقة ومؤشرات الأمن الغذائي، بحسب الدكتور سليم النابلسي.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :