كي لا يكون العمل التطوعي وسيلة للإثراء غير المشروع

  • 2024/09/01
  • 12:00 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

لا يمكن الزعم، أو الجزم ابتداء، أن كل الأعمال التطوعية التي تقوم بها جمعيات وفرق ومؤسسات نشأت ونهضت بأعمالها خلال سنوات الصراع السوري على أنها إحدى أدوات الإثراء غير المشروع، ولا وصمها بمغارات وكهوف اللصوصية والكسب غير المشروع. بنفس القدر الذي لا يمكن الزعم أو الجزم بخلاف ذلك أيضًا، فهناك من الفرق والمنظمات ما تم تأسيسه حقًا ليكون وسيلة للثراء والتكسب لا أكثر، وما يؤشر إلى ذلك ليس فقط الثراء المفاجئ لمديريها الذي ليس له تأصيل لمصدره، بل أيضًا آليات تكوينها وعملها البعيد عن الشفافية، والإفصاح عن مصادر تمويلها وكيفية إدارة هذا التمويل وتوظيفه في خدمة القضية، التي آل فريق إدارتها على نفسه حمل عبئها أو جزء منه، هو مؤشر آخر يستدل به على ذلك.

من المهم بداية أن نفهم أن العمل التطوعي ليس عملًا لمن لا عمل له، بل هو جهد يبذله المتطوع الذي يخصص بعضًا من وقته خارج أوقات عمله لأدائه وبلا أجر، اللهم إلا نفقات متواضعة تصرف للمتطوع لأداء العمل التطوعي ضمن الأوقات التي خصصها لذلك الجهد التطوعي لا يحتمل حاله المالي أن يؤديها منه، كأجور السفر والإقامة في المكان الذي يقتضيه أداء العمل المنوط به فقط والمتطوع لأدائه.

وعلى هذا يمكننا القول إن العمل التطوعي هو تلك الفعاليات والأنشطة التي يقوم بها الأفراد دون مقابل مادي بهدف تقديم العون والمساعدة، أيًا كان شكل وطبيعة تلك المساعدة، لأفراد أو مجموعات بشرية أو مؤسسات ومنظمات تؤدي وظيفة مجتمعية تهدف للارتقاء بواقع هؤلاء أو حمايتهم.

فالطبيب الذي يخصص بضع ساعات من يومه لعلاج المرضى والتخفيف من أوجاعهم دون مقابل هو متطوع، ورجل القانون الذي يخصص بعضًا من وقته لتقديم المشورة القانونية مجانًا لفرد أو فئة من الناس تحتاج إليها هو متطوع، وكذلك المدرّس والمهندس وكل صاحب مهنة أو حرفة فهو متطوع بالعلم أو الجهد والوقت الذي يخصصه لمجتمعه طالما أنه يقدمه دون مقابل مادي، أما خلاف ذلك فهو ليس عملًا تطوعيًا بل عمل وظيفي، طالما يتقاضى الشخص عليه أجرًا، وهو ما يرتب عليه في هذه الحالة مسؤوليات والتزامات مغايرة، لأنه في تلك الحالة يكون ملزمًا بتخصيص وقته بالكامل لهذا العمل الوظيفي وملزمًا بأداء هذا العمل بالمستوى الذي توجبه مسؤولياته الوظيفية، طالما أنه يتقاضى أجرًا عادلًا عن هذا العمل، وهو ما يخضعه للمساءلة إذا ما تهاون في أداء ما هو منوط به من مهام، وكل قول خلاف هذا المعنى هو محض تدليس على الناس لا أكثر.

لا يكفي أن تنشر وتعلن عن مواردك وإنفاقاتك لتكون شفافًا، فالموارد يجب بيان مصدرها للتثبت من مشروعيتها، وبيان المشروع أو البرنامج الذي ستنفق فيه وتكلفته التقديرية والمدة المقرر تنفيذه فيها، أما الإنفاقات فيجب أن تكون مفصّلة ومرشّدة وموثّقة وفي مكانها الصحيح، وكذلك النفقات التشغيلية كأجور السفر والتنقل ورواتب الموظفين وإنفاقات المكتب، يجب أن تكون بيّنة وواضحة تفصيليًا وموثّقة بالفواتير والإيصالات، حتى تتثبت الجهات أو المؤسسات أو الأفراد الداعمة من أن أموالها لا تذهب هدرًا ولا هباء ولا مبالغة بالإنفاقات أو الأجور أو الرواتب، وأن تلك الأموال يتم توظيفها بشكل صحيح في خدمة البرنامج الذي قررت تمويله والتبرع له.

أما أن تثري فجأة ويصير لديك بيت، أو بيوت، في عمارات أو أبراج تبلغ قيمتها الملايين، أو يصير لديك سيارة وربما أكثر، أو رصيد متخم في أحد المصارف، دون أن تكون لديك ثروة ومال في بلدك أو رصيدك قبل انخراطك في هذا العمل، فذلك تمامًا هو الإثراء غير المشروع، وهو التكسب والاتجار بقضايا المجتمع واحتياجاته، لأنه من غير المتصور أن يتمكن الموظف من شراء ذلك إلا إذا بلغ “راتبه” مبلغًا كبيرًا وفوق ما هو معتاد، وهذا أيضًا يمكن تصنيفه كنهب منظم وغير مشروع، لأن المبالغة في الأجور والرواتب هو نهب للموارد بغير حق.

وحتى لا تكون، كمدير لجمعية أو فريق تطوعي، محل شبهات واتهامات، يمكنك إطلاع العامة على ما تملك فور تبوئك تلك المسؤولية، مع الوثائق مثل كشف حساب مصرفي أو بيان قيد عقاري أو بيان لصحيفة ملكية سيارة يسبق تاريخها تاريخ تسلّم مسؤولياتك، وبيان ما طرأ على تلك الممتلكات وما أضيف إليها فور انتهاء هذا العمل، وبيان مصدر أي إضافات جديدة على تلك الممتلكات. ويتعين أن يكون ذلك النهج سنّة متبعة وملزمة لكل من يناط به أمر مسؤولية إدارة أموال خصصت للنفع العام، سواء في مؤسسة حكومية أو منظمة مجتمع مدني أو فريق تطوعي أو مؤسسة إنسانية.

ولكيلا تكون تلك المؤسسات جسر عبور نحو الكسب غير المشروع أو الإثراء بلا سبب، فإن من موجبات عملها أيضًا أن تعلن عن أموالها ومصادر تلك الأموال للعامة، والوجهة والبرامج التي ستستخدم بها وما قد يضاف إليها خلال مسيرة العمل من متبرعين أو ممولين جدد، ثم ومع انتهاء هذا العمل يتعين أن تكرر المكاشفة للجمهور والرأي العام والجهات المانحة أيضًا بنشر تقرير مفصل عن الأعمال المنجزة والتكاليف والنفقات التي صُرفت لها والرواتب والأجور المؤداة للموظفين، والمبالغ المنفقة للمتطوعين بالاسم والتاريخ، مقرونة بأوامر صرف وإيصالات تسلّم وقبض، مشفوعًا بتقرير من شركات محاسبة دولية معروفة يصدق على ذلك. أما الاكتفاء بالقول: “بلغت مواردنا عدة ملايين أنفقنا منها عدة ملايين وبقي في رصيدنا كذا”، فهذه ليست شفافية ولا مكاشفة بقدر ما هي عملية احتيال موصوفة على الجمهور، الذي يملك كل الحق بالشك والاتهام عندما يرى ملامح الثراء على المنخرطين في هذا الفضاء العام دون بيان مصدر هذا الثراء وما إذا كان ثراء أصيلًا لدى الإنسان أو طارئًا عليه.

بصرف النظر عما قيل إنه حديث عن الرسول الكريم أو مجرد حكمة متداولة “رحم الله امرأ جبّ الغيبة عن نفسه”، فإن جوهر القول يبقى صحيحًا وحريًا بالاتباع.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي