خطيب بدلة
القول بأن “الشعر ديوان العرب” دليل على أن ثقافتنا شفاهية، ارتجالية، أبعد ما تكون عن السرد، والتدوين، والحفظ، والمراجعة، والتأمل. أغراض الشعر عديدة، منها الهجاء، أي أن تبيح لنفسك شتم خصمك، وإهانته، وتصغيره، وإضحاك الناس عليه، دون أن تأتي على ذكر صفة إنسانية جيدة واحدة يمكن أن يتحلى بها.
الشاعر جرير، هجا خصمَه، الأخطل التغلبي، بقوله: والتغلبي إذا تنحنح للقرى/ حكَّ استَه، وتمثل الأمثالا. وكما ترون، لم يقتصر الأمر على هجاء الخصم، بل تعداه لشتم القبيلة كلها، وإظهارها بخيلة، شحيحة، إذا مر ضيف بأحد أفرادها، يصبح سلوكه كاريكاتيريًا، يتنحنح، ويحك دبره، ويضرب لضيفه الأمثال لكي يتملص من تقديم واجبات الضيافة له.
الشاعر الأخطل يفعل الشيءَ نفسه، إذ يهجو قبيلة كاملة، بقوله:
قومٌ إذا استنبحَ الأضيافُ كلبَهُمُ
قالوا لأمِّهِمُ بولي على النارِ
فهؤلاء القوم، كما يصفهم، بخيلون حتى بالماء، لذا يطلبون من والدتهم أن تبول على النار، لتطفئها، فلا يرى الأضياف مكان إقامتهم. والأم، بدورها، تبخل حتى بالبول:
فتمسكُ البولَ بخلًا أن تجود به
وما تبولُ لهم إلا بمقـــــــــــــــدارِ
يتماهى الهجاء، في بعض الأحيان، مع ما نسميه، بلغة اليوم “التمييز العنصري”، من ذلك بيت لجرير هجا به الراعي النميري، صنفه النقادُ بأنه أهجى بيت قالته العرب:
فغض الطرفَ إنك من نُمير
فلا كعبًا بلغت ولا كلابا
ما يعني أن الفرد في قبيلة نمير وضيع بالضرورة، وأبناء كعب وكلاب عظماء بالمولد.
على ذكر مصطلح “التمييز العنصري”، لا أعتقد بوجود شاعر يفوق المتنبي في احتقاره الآخرين، والاستهزاء بإنسانيتهم. فحين يقول:
مَن علم الأسودَ المخصيَّ مكرمة
أقومه البيضُ، أم آباؤه الصيدُ؟
فإنه، أولًا، يهجو ذوي البشرة السمراء كلهم، وثانيًا، يلوم العبد الذي خصاه أسيادُه، بدلًا من أن يلوم الذين اعتدوا على إنسانيته حينما خصوه، وينفي عنه أي نوع من المكارم لأنه ليس بأبيض. وفي موضوع آخر، من القصيدة ذاتها، يرى المتنبي أن العبد ملوم لأن غيره استعبده، وأنه كائن غريزي، حيواني، يباع ويشترى مثل الأشياء والحيوانات، ولا يمكن التفاهم معه بلغة العقل، بل يحتاج للضرب:
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيدُ
أعظم شاعر هجاء، في تاريخ هذه الأمة الهجائية، بلا شك، ابن الرومي، ولكنه، كذلك، غير منصف، إذ يترك الشخص المهجو جانبًا، ويذهب بعيدًا في القدح بزوجته، فيقدمها على أنها مدرسة في الخيانة الزوجية، هذا كله لكي يثبت على المهجو أنه قواد. وقد اختص ابن الرومي بهجاء المطربين ذوي الأصوات المنكرة، ولا أظن أن شاعرًا يفوقه في وصف صوت رجل عندما قال:
فكأن جرذان المحلة كلها
في حلقه يقرضنَ خبزًا يابسا
وكان شديد العداء لأصحاب اللحى، لا يترك مناسبة إلا ويهجوهم خلالها، وكان يرى أن وجود العقل في الدماغ يتناسب عكسًا مع ضخامة اللحية، وهذا ما عبر عنه ببيتين مدهشين:
إذا عرضتْ للفتى لحيةٌ
وطالت فصارت إلى سُرَّتِهْ
فنقصانُ عقل الفتى عندنا
بمقدار ما طال في لحيتِهْ