عنب بلدي – ليندا علي
يخرج السبعيني “أبو ليث” من منزله عند السادسة صباحًا كل يوم، للعمل على “تاكسي” استأجرها مقابل مبلغ شهري من أحد أصدقائه، يجوب بها شوارع مدينة اللاذقية، بحثًا عن ركاب لا يجد إلا قلة منهم، فالغالبية امتنعوا عن استخدام “التاكسي” نتيجة ارتفاع الأجور بسبب الارتفاع المتكرر لسعر البنزين.
“أبو ليث” والد لخمسة شبان وشابتين، اثنان من أبنائه يعيشان معه ومع زوجته في منزلهم بضاحية سقوبين، ويعاني من الضغط والسكر، ومع ذلك لا يستطيع ترك عمله، لأن راتبه التقاعدي لا يتجاوز الـ290 ألف ليرة سورية (19 دولارًا أمريكيًا)، وهو مبلغ لا يكفي ثمن دوائه وطعام العائلة.
أكثر ما يقاسيه الرجل السبعيني، حرارة الجو صيفًا والبرد الشديد شتاء، فهو لا يستطيع تشغيل المكيف في السيارة، حتى لا يستهلك المزيد من البنزين مرتفع الثمن.
“أبو ليث” قال إنه يعمل منذ السادسة صباحًا وحتى الثامنة مساء تقريبًا، وفي معظم الأحيان يستمر عمله دون فترة راحة، حيث يأخذ معه طعامه ليتناول غداءه في السيارة، وعلى الرغم من حاجته لقيلولة عند الظهيرة، فإنه يفضّل عدم الذهاب إلى المنزل والعودة للعمل، كي لا يخسر المزيد من البنزين.
ومع ذلك ينجح أحيانًا بأخذ قيلولة صغيرة، حين يبتسم له الحظ بزبون منزله بالقرب من الضاحية التي يعيش بها، فيوصله ثم يذهب إلى منزله ليرتاح قليلًا ويعاود العمل.
أدت الظروف المعيشية القاسية التي يعيشها معظم السوريين إلى استمرار عمل كبار السن الذين لا يجدون فرصة للتقاعد، فالراتب التقاعدي لا يكفي، وغالبية الآباء والأمهات لا يريدون أن يضغطوا على أبنائهم المتزوجين الذين بالكاد يحصلون على قوت يومهم وعائلاتهم.
ويلجأ كبار السن للعمل في جميع أنواع الأعمال التي تتوفر لهم، ويميل غالبيتهم للعمل على “بسطات” بيع الخضراوات أو اللوازم المنزلية وحتى “السكاكر”، حتى إن بعضهم يمارس أعمالًا مجهدة في البناء والعتالة، بينما لا يكفي أجرهم اليومي حتى لقوت يومهم أحيانًا.
تعمل لتأكل
حسنة، عجوز ثمانينية، تعمل في أرضها صغيرة المساحة، التي تبعد عن منزلها بمقدار عشر دقائق مشيًا، إذ تزرع البقدونس وأنواعًا أخرى من الخضراوات الصيفية مثل اليقطين واللوبياء وغيرهما، ولا تعطي الأرض مردودًا كبيرًا، إلا أنها توفر لها طعام يومها، حسب قولها.
تستعين الجدة حسنة بعكازها للوصول إلى أرضها، ومن ثم قطاف الخضراوات صباحًا، وأخذ حاجتها منها، ثم منح الباقي إلى “الدكان” الصغير في قريتها فدرة بريف اللاذقية، ليبيع خضراواتها، وبثمنها تشتري بعض المواد التموينية من أرز وسكر وغيرهما.
لدى حسنة ستة أبناء وبنات، جميعهم متزوجون، اثنان من أبنائها يعيشان بالقرب منها، ويساعدها أبناؤهما أحيانًا في عملها هذا.
قالت السيدة إنها تفضّل أن تحصل على طعامها بنفسها على الرغم من أن أبناءها لا يحبذون ذلك، لكنها طالما تستطيع العمل ولو على العكاز لن تلجأ لأي إنسان آخر، كما أنها تعلم أحوال الحياة وضيقها على أبنائها.
حسنة ترى أنها محظوظة جدًا لعدم معاناتها من أي مرض، باستثناء وجع المفاصل الذي يلازمها خصوصًا في فصل الشتاء، ولا ينفع معه أي دواء أو مسكنات، ولا حل إلا بعملية تركيب مفصل جديد تكلف نحو 70 مليون ليرة سورية، وفق ما أخبرها به الطبيب، وهو مبلغ لا تحلم أن تمتلكه يومًا ما لا هي ولا أبناؤها.
تصبر العجوز على آلامها، وتتابع عملها كما كثير من السوريين، الذين إن لم يعملوا لن يحصلوا حتى على طعام يومهم.
معاناة على توزع الجغرافيا السورية
عمل المسنين لا يقتصر على منطقة سيطرة دون غيرها في سوريا، فالوضع الاقتصادي والمعيشي المتردي يلقي بظلاله على كل الجغرافيا السورية.
وتعمل الستينية خديجة بأعمال الزراعة بالمياومة في ريف درعا الغربي، بأجرة تصل إلى 30 ألف ليرة سورية، عن كل خمس ساعات عمل.
واضطرت خديجة للعمل من أجل تأمين مصروف عائلتها المكونة من ثمانية أفراد، بينهم أحفادها من أبنائها الثلاثة الذين قُتلوا في معارك ضد قوات النظام السوري وضد تنظيم “الدولة الإسلامية”، خلال السنوات الماضية.
تعاني خديجة من الوهن والتعب الجسدي، لكنها مضطرة للعمل، وقالت إن أصحاب المشاريع يتذمرون أحيانًا من وجودها ضمن فريق العمل بسبب وضعها الصحي، إذ إنهم يفضّلون فئة الشباب كونهم أقوى على العمل.
وذكرت أنها تتغيب عن العمل في بعض الأيام عندما تسوء صحتها.
أما رائد المعجون (65 عامًا) فيعمل على صهريج نقل مياه إلى قرى ريف دير الزور الشمالي، من أجل إعالة عائلته وعائلة شقيقه الذي قضى خلال قصف لقوات التحالف على بلدة البوليل شرقي دير الزور عام 2017.
وتقطن الستينية نهلة الصالح في مخيم “الكويتي” شمالي إدلب، وتعيل أسرتها النازحة من معرة النعمان جنوبي إدلب، عبر تكسير ثمار الجوز، وتحصل على أجرة 50 ليرة تركية (21 ألف ليرة سورية) مقابل تكسير 50 كيلوغرامًا.
تضطر السيدة إلى العمل رغم أنها مريضة بداء السكر نتجت عنه حالة بتر في ساقها، ولديها تسرع في القلب، وخضعت لـ12 عملية في قدمها، وتعاني من تفتت في العظم، ولم تستطع تركيب مفصل لرِجلها حتى الآن.
وأدى تدهور الظروف الاقتصادية إلى جعل العديد من كبار السن يكافحون من أجل العثور على عمل كريم، ما أجبرهم على بيع أصولهم لتلبية احتياجاتهم الأساسية، وفق تقرير لـ”الأمم المتحدة” عن شمال غربي سوريا، في شباط 2024.
وذكرت المنظمة أن 59% من كبار السن شمال غربي سوريا يشعرون بانخفاض في الاحترام والتقدير داخل مجتمعاتهم، كما يؤدي الاستبعاد من القوى العاملة إلى تهميش كبار السن، ما يؤدي إلى تدهور صحتهم العقلية.
وأضافت أن كبار السن من ذوي الإعاقة يواجهون صعوبة في كسب الاحترام أو التقدير.
ويُصنَف ما يقرب من 417 ألف شخص مسن على أنهم الفئة الأكثر “عرضة للخطر” في شمال غربي سوريا، وخاصة أولئك الذين يعيشون في فقر ويقدمون الرعاية لأفراد آخرين من الأسرة، في المنطقة التي يقطنها 5.1 مليون نسمة.
حياة قاسية على كبار السن
يعاني كبار السن في سوريا صعوبات اقتصادية واجتماعية وصحية، في وقت يعيش 90% من السوريين تحت خط الفقر، و12.9 مليون شخص يعانون انعدام الأمن الغذائي.
ومنذ ازدياد هجرة الفئة الشابة من عموم سوريا، بدأ مغتربون كثر يبحثون عمن يرعى ذويهم من كبار السن، بعد أن فرض الواقع الأمني والمعيشي والاقتصادي المتردي خيار السفر على الأبناء منذ سنوات.
وتشهد سوريا ارتفاعًا متزايدًا في أعداد كبار السن، وقُدّرت نسبتهم بنحو 7.2% من عدد السكان لعام 2015، وهو ما يعادل 1.7 مليون شخص، وفق تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا).
وتوقعت “إسكوا” وصول النسبة إلى 13% عام 2050، أي ما يعادل 5.7 مليون نسمة.
وتتوزع دور رعاية المسنين في مناطق سيطرة النظام السوري، ويبلغ عددها 20 دار رعاية خاصة مرخصة، وتوجد اثنتان حكوميتان هما دار “الكرامة” بدمشق ودار “مبرة الأوقاف” في حلب، وتدار بالتعاون مع المجتمع الأهلي، وتعتمد بشكل أساسي على التبرعات.
وارتفعت تكاليف إقامة كبار السن في هذه الدور إلى نحو 18 مليون ليرة في السنة لكل مقيم، دون أن تشمل الأدوية وتكاليف العمليات الجراحية.