عنب بلدي – حسن إبراهيم
تكرر ظهور فصائل ومسؤولين في “الجيش الوطني السوري” صاحب السيطرة على ريفي حلب الشرقي والشمالي، ضمن قطاعات بعيدة عن حياة العسكرة والبندقية من تعليم وحملات تشجير وغيرها، ليفتح الباب أمام جدل حول أدوار ومهام هذه الفصائل ومسؤوليها، إذ اعتبره البعض إقحامًا غير مبرر وتصدرًا للواجهة وتلميعًا للصورة، وسط واقع فوضى فصائلية تعيشها المنطقة.
ما زاد هذه النظرة السلبية تجاه هذا الظهور والتدخل هو حالة الفلتان الأمني التي يعيشها ريفا حلب الشمالي والشرقي وتل أبيض ورأس العين، بدءًا من اشتباكات لا تهدأ وصولًا إلى اعتقالات تعسفية، وتسجيل حالات وفاة، إثر تعذيب لأشخاص في سجون فصائل “الوطني” حيث تسيطر “الحكومة المؤقتة”.
تعليم وتشجير وتزفيت
بحسب رصد عنب بلدي، كان أبرز ظهور عسكري بقضايا مدنية، في تشرين الثاني 2023، حين أجرى وزير الدفاع في “الحكومة السورية المؤقتة”، حسن الحمادة، ومدير إدارة “الشرطة العسكرية”، خالد الأسعد، زيارات لعدة مدارس في مدن اعزاز وعفرين وجنديرس للإشراف على توزيع 5000 حصة قرطاسية للطلاب، والوقوف على الحالة الأمنية للمنشآت التعليمية.
وفي 19 من تشرين الثاني 2023، أطلقت وزارة الدفاع حملة تشجير تهدف إلى زراعة 100 ألف غرسة في الأماكن العامة والمناطق التي على وشك أن تفقد طبيعتها الحرجية، شارك بها الوزير حسن الحمادة.
وأرجعت الوزارة السبب إلى أن المنطقة عانت خلال السنوات الماضية من الآثار المدمرة للمعارك على الطبيعة، فضلًا عن الجفاف الناجم عن تغير المناخ، وهدف الحملة توسيع المنطقة الخضراء والحد من ظاهرة التصحر.
في 25 من آب الماضي، قال قائد فرقة “السلطان سليمان شاه” (العمشات)، محمد الجاسم (أبو عمشة)، إن العمل جارٍ على توسيع وإصلاح الطرقات في بلدة شيخ الحديد بعفرين لتحسين البنية التحتية.
وفي وقت سابق، ذكر أن “القوة المشتركة” (الحمزات والعمشات) تسهم بالتعاون مع المجالس المحلية في المناطق التي توجد بها بالعمل على تحسين البنية التحتية للمدن والقرى ضمن الإمكانيات المتاحة.
ونشر “أبو عمشة”، في تموز 2023، أن حملة مساندة مرضى السرطان مستمرة في عفرين ونواحيها من قبل” القوة المشتركة”.
هذا الوجود العسكري في القطاعات المذكورة حاضر رغم وجود أجسام مدنية تدير المنطقة، سواء من “الحكومة المؤقتة” المؤلفة من تسع وزارات تتبع لها مديريات ومكاتب، أو من المجالس المحلية الموجودة في كل منطقة.
خلال السنوات الماضية، سجلت منظمات حقوقية وإنسانية انتهاكات من قبل عناصر وفصائل في “الجيش الوطني” في القطاعات المذكورة، وانتهاكات بحق مدارس وكوادر تعليمية، وعمليات تحطيب، واستيلاء على منازل بالقوة، وإنشاء حواجز عسكرية ومقار داخل الأحياء السكنية.
ويتألف “الجيش الوطني” من ثلاثة فيالق، ولا يوجد عدد ثابت لعناصره، إذ قال “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة“، إن عددهم 80 ألف مقاتل في 2019، في حين ذكر تقرير لمعهد “الشرق الأوسط”، في تشرين الأول 2022، أن التشكيل يجمع من 50 ألفًا إلى 70 ألف مقاتل.
“تدخل طبيعي يحتاج إلى التنسيق”
لطالما كانت قضية ارتباط العسكر بالحياة المدنية قضية إشكالية، إذ يمثل تدخلهم في الحياة المدنية إيجابًا أو سلبًا أو حيادهم وعدم تدخلهم في المجالات المدنية ظاهرة معقدة، كما يحمل المجتمع نظرة سلبية تجاه العسكر وتدخلاتهم في الحياة المدنية، وهو ما تحدث عنه مفكرون.
ويرى مكيافيلي أن “العسكري لا يمكن أن يكون رجلًا صالحًا”، بينما يرى فولتير أن العسكر “تجسيد للقوة الغاشمة في شكل عقلاني”، ويرى كل من جيراسيموس وآدامز أن الجيش على الرغم من ضرورته، يمثّل دائمًا خطرًا على حريات الناس.
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” نوار شعبان، قال إن المؤسسات العسكرية عندما تتدخل بتفاصيل الحياة اليومية، ترافقها أصوات تندد بهذا التدخل، فالجميع يفضّل أن يكون الحكم العسكري مفصولًا عن الحياة الاجتماعية، وهو أمر منطقي في المناطق التي لا تشهد نزاعًا ومستقرة.
وأضاف أن تدخل العسكرة في منطقة تعاني من نقص سواء بالخدمات أو بقطاعات معيّنة، وتملك هذه المؤسسات أو الأجسام العسكرية القدرة على سد هذه النواقص أو الفجوات، هو تدخل طبيعي من الصعب انتقاده، لأن الحاجة موجودة.
ولفت شعبان إلى أن تدخل الفصائل أو الشخصيات العسكرية في الشؤون اليومية من خدمات وغيرها يجب أن ترافقه ضوابط ورقابة وتنسيق لهذا التدخل، لتجنب وجود أجندات خلفه، بغض النظر عن أي جهة أو مسمى.
ويرى الباحث أن المؤسسات العسكرية يمكنها الاستمرار بالدعم في مختلف النواحي، لكن بالتنسيق مع الجهات المسؤولة الأخرى، من مجالس محلية ووزارات وغيرها.
بغض النظر عن أن المنطقة بحاجة، لكن بسبب عدم وضوح العقيدة العسكرية وطريقة تنظيم “الجيش الوطني” ببعض التفاصيل، ينبغي لهذه الأسماء أو الفصائل أو الجهات العسكرية أن تقوم بالتنسيق مع الجهات المسؤولة قبل القيام بأي عمل لتفادي حدوث أي إشكاليات في المستقبل.
نوار شعبان
باحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”
وتعاني منطقة شمال غربي سوريا من أوضاع اقتصادية ومعيشية صعبة، وعوز في معظم القطاعات، إذ يسكن فيها 5.1 مليون شخص، منهم 4.2 مليون بحاجة إلى مساعدة، و3.4 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي، 3.4 مليون منهم نازحون داخليًا، ومليونان يعيشون في المخيمات، وفق الأمم المتحدة.
وفي شباط 2023، حين ضرب الزلزال جنوبي تركيا وأربع محافظات سورية، طلبت وزارة الدفاع من جميع الوحدات والتشكيلات العسكرية في “الجيش الوطني” تقديم المساعدة لعناصر “الدفاع المدني” والآليات المطلوبة لإنقاذ وإسعاف المصابين، وتوجيه الحواجز بتأمين مرور عربات الإسعاف بشكل سريع.
انتهاكات “الجيش الوطني”
وفق تقرير لجنة التحقيق الدولية الخاصة في سوريا الصادر في آذار 2024، وثقت اللجنة انتهاكات من قبل فصائل في “الجيش الوطني” وقياديين وعناصر فيه و”الشرطة العسكرية” وكانت أبرزها:
- احتجاز واعتقالات شملت رجالًا ونساء عربًا وكردًا، استندت ظاهريًا إلى “الإرهاب”، والانتماء إلى حزب “العمال الكردستاني” والتعاون المدعى مع كيانات أجنبية.
- الاعتقال لابتزاز الأموال من العائلات، فاحتُجز المعتقلون لفترات طويلة دون مثولهم أمام قاضٍ، ثم أُطلق سراحهم دون تهمة بعد أن دفعت العائلات آلاف الدولارات.
- تعذيب المعتقلين وإساءة معاملتهم في العديد من مراكز الاحتجاز بعفرين واعزاز ومعراتا وراجو وحوار كلس.
- احتجاز أفراد بشكل غير قانوني وارتكاب أعمال قد ترقى إلى جرائم الحرب متمثلة في التعذيب والمعاملة القاسية والنهب.
- حالات معزولة من العنف الجنسي والعنف الجنساني يرتكبها أفراد من “الجيش الوطني السوري”، بما في ذلك التهديدات بالعنف الجنسي ضد المحتجزات.
- مصادرة جزء من محصول المزارعين من الزيتون، وفرض ضرائب وإتاوات على المزارعين.
- استيلاء على الأراضي التي يملكها ملاك غائبون والسيطرة عليها.
- فرض ضرائب على المساعدات النقدية الإنسانية، والطلب من العائلات تسليم نصف المبلغ من المساعدات للفصيل.
- إجلاء أسر نازحة داخليًا قسرًا من المنازل المشيدة حديثًا التي بنتها منظمة غير حكومية في قرية معبطلي، لأنهم أرادوا جعلها منازل لأفراد فرقة “العمشات”.
مأسسة “الوطني”
منذ عامين، برزت عدة خطوات اتخذتها “المؤقتة” في سياق ترتيب الصفوف وهيكلة “الجيش الوطني”، بدءًا من تشرين الأول 2022، حين أطلقت “المؤقتة” خطة لتفعيل دور المؤسسات وتوحيد الفصائل، بعد سلسلة اجتماعات ولقاءات أجرتها وزارة الدفاع مع مختلف القوى العسكرية والأمنية فيه.
وفي كانون الثاني 2023، أعلن “الجيش الوطني” البدء بتنفيذ خطة تسليم جميع الحواجز الأمنية إلى إدارة “الشرطة العسكرية” في مناطق سيطرته.
وفي 20 من آذار الماضي، طالبت وزارة الدفاع المجموعات الموجودة في المنطقة وغير المنضوية تحتها بضرورة الانضمام للوزارة بشروط ومعايير “الجيش الوطني”، وذكرت أن الهدف يعود لـ”ترسيخ العمل المؤسساتي وتحسين الواقع الأمني في المنطقة”.
وافتتحت وزارة الدفاع في “المؤقتة” أكاديمية عسكرية بمنطقة عفرين، في 29 من أيار الماضي، لتقديم التدريب العسكري الحديث لـ500 عنصر بشكل أولي، وذكرت أن إنشاء الكلية جاء ضمن نطاق مشروع تحويل “الجيش الوطني” إلى جيش نظامي.
وفي حزيران الماضي، وقعت الأمم المتحدة “خطة عمل” مع “الجيش الوطني” تهدف “لإنهاء ومنع التجنيد وقتل وتشويه الأطفال وفقًا لقرار مجلس الأمن 1539 (2004) والقرارات اللاحقة”.