عادت الدوريات الروسية- التركية المشتركة للتجوال في مناطق تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) شمال شرقي سوريا، بموجب اتفاق “سوتشي”، الموقع بين الجانبين في نهاية عام 2019، بعد أكثر من عام على توقفها لأسباب أمنية.
وكالة الأنباء الروسية (تاس) ذكرت، في 23 من آب الحالي، أن أنشطة الدورية البرية المشتركة لتركيا وروسيا عادت في سوريا، مشيرة إلى أن موسكو تخطط في المستقبل لمواصلة هذا النشاط المشترك.
من جانبها نقلت وكالة “الأناضول” بيانًا لوزارة الدفاع التركية، أعلنت فيه من جانبها عن إعادة تسيير الدوريات بعد مرور نحو عام على انقطاعها.
وقالت الدفاع التركية، في اليوم نفسه، إن الهدف من استمرار أنشطة الدوريات البرية المشتركة هو ضمان أمن الحدود التركية والسكان المدنيين في المنطقة.
وأشارت إلى أن هذا المسار يهدف أيضًا لتحديد نقاط السيطرة والمقرات والهياكل العسكرية لـ”قسد” التي تعتبرها امتدادًا لحزب “العمال الكردستاني” (PKK) المدرج على “لوائج الإرهاب” لديها.
وقالت الوزارة التركية حينها إن الدوريات تسير في المناطق التي يجب أن يخرج “PKK” منها وفقًا للاتفاقيات التي أبرمتها تركيا مع الولايات المتحدة والاتحاد الروسي.
الدوريات كانت نشطة في المنطقة منذ 2019، وتوقفت عام 2023، لكنها لم تترك أي أثر على الأرض، فهل تشكل عودتها تغييرًا جذريًا في مسار الأحداث بالمنطقة؟
الدوريات على مدار سنوات
تستهدف الدوريات المشتركة بين روسيا وتركيا عادة منطقتين رئيستين شمالي وشرقي سوريا، إذ تدخل القوات التركية من معبر قرية شيرك غرب بلدة الدرباسية، لتلتقي هناك مع القوات الروسية القادمة إما من قاعدتها العسكرية في مطار “القامشلي”، وإما من قاعدتها شرقي تل تمر (مجمع المباقر سابقًا)، بحسب ما رصده مراسل عنب بلدي في الحسكة سابقًا، خلال ذروة نشاط هذه الدوريات.
وتسلك الدورية طريقًا يعبر قرى الريف الجنوبي، أبرزها الدرباسية وعامودا، وتصل في بعض الأحيان إلى ريف أبو راسين الشمالي الغربي حيث خطوط التماس بين “قسد” والجيش الوطني”، لتعود أدراجها بعد ذلك.
تتشكّل هذه الدوريات من عدة آليات مدرعة، وتُقسم مناصفة بين الجيشين الروسي والتركي، وترافقها مروحيتان عسكريتان من الجانب الروسي.
بينما تقع منطقة الدوريات الثانية شرقي مدينة القامشلي بريف الحسكة، إذ تدخل القوات التركية إلى المنطقة من معبر “دير غصن” شمال الجوادية، وتلتقي مع القوات الروسية القادمة من القامشلي.
هذه الدورية تجوب عادة قرى وبلدات واقعة على الشريط الحدودي من القامشلي مرورًا بالقحطانية والجوادية إلى أن تصل إلى ريفي معبدة ورميلان الشمالي، وأحيانًا كانت القوات التركية تغيب عن تنفيذ الدورية المشتركة لتكملها القوات الروسية منفردة برفقة قوات من “قسد”.
وقد تصل الدورية إلى المثلث الحدودي عند قرية عنديور (أقصى نقطة في شمال شرقي سوريا) شمال شرق بلدة المالكية، شرقي الحسكة.
توقفت الأطراف عن إعلان إطلاق الدوريات، وصار رصد تسييرها يعتمد على صفحات إخبارية محلية، في المناطق التي تسير فيها الآليات العسكرية، منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا مطلع عام 2022.
ما الهدف منها؟
في فترة ذروة تسيير هذه الدوريات في سوريا، بموجب اتفاق “سوتشي” بين تركيا وروسيا، لم تترك أثرًا ملحوظًا في المنطقة، إذ لم يتغير شكل سيطرة “قسد” الجغرافية المدعومة من واشنطن، كما لم تتوقف تركيا عن ضرب مواقع عسكرية لـ”قسد” في المنطقة.
وتزامنت هذه الفترة مع اتهامات تراشقتها أنقرة وموسكو حول عدم الوفاء بشروط اتفاق “سوتشي” حول الجغرافيا الممتدة من إدلب وحتى الحسكة، وأحدث التصريحات الروسية جاءت على لسان المبعوث الخاص السابق للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، بقوله، “تركيا لم تفِ بالتزاماتها المتعلقة بمنطقة خفض التصعيد في إدلب، وعليها الوفاء بتعهداتها المتعلقة بهذا الشأن”.
بينما قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مرارًا إن روسيا لم تفِ بتعهداتها فيما يتعلق باتفاق “خفض التصعيد” في سوريا.
مدير مركز “رامان للدراسات” بدر ملا رشيد، قال لعنب بلدي إن إطلاق الدوريات المشتركة كان مسعى روسيًا- أمريكيًا لضبط حدود العملية العسكرية التركية التي أطلقت عليها أنقرة “نبع السلام”، بهدف إبعاد “قسد” عن الحدود التركية.
وأضاف أن الاتفاق نجح منذ خمس سنوات في تثبيت واقعٍ جديد على الأرض، خصوصًا أن الغاية من الاتفاق كان إيقاف حدة العمليات العسكرية، وخلق طمأنة لدى الجانب التركي من حيث انتشار “قسد” على حدودها الجنوبية.
وحول انقطاع هذه الدوريات لأكثر من عام، قال ملا رشيد، إنه يشير لعدم رغبة الجانبين في التنسيق نتيجة وجود خلافات، أو وجود رغبة تركية في تحقيق ضغوط على الجانب الروسي، لذا فمن المتوقع أن تسهم عودة الدوريات المشتركة في تعزيز الاستقرار الأمني، والتقليل من احتمالات المواجهة العسكرية بين “قسد” وتركيا.
وأشار الباحث إلى أن عودة الدوريات قد تسهم في زيادة ترسيخ التفاهمات الميدانية بين تركيا وروسيا في ظل وجود محاولات لإحقاق اتفاق تركي مع النظام السوري.
هل تترك أثرًا
لم تعلن “قسد” عن موقف رسمي من عودة هذه الدوريات، إذ لا يدو واضحًا فيما إذا كان وجود آليات عسكرية تركية في جزء، ولو كان صغيرًا، المناطق التي تسيطر عليها قد يترك أثرًا سلبيًا أو إيجابيًا بالنسبة لها.
الباحث في مركز “جسور للدراسات” أنس شواخ، يعتقد أن ظهور الدوريات مجددًا في سوريا، يعكس رغبة الأطراف برفع مستوى التنسيق بينها في المنطقة.
وأضاف، لعنب بلدي، أن الهدف من الدوريات منذ إطلاقها، كان إتاحة مراقبة نشاط “قسد” أو “العمال الكردستاني” في شمال شرقي سوريا، لكل من تركيا وروسيا على حد سواء.
وبالنسبة لتركيا، قد تساعد هذه الدوريات في تعزيز بنك المعلومات الذي تستخدمه أنقرة خلال عمليات استهداف قادة وعناصر من “العمال”، شمالي سوريا.
ويعتقد الباحث أن موافقة “قسد” أو رفضها لوجود هذه الدوريات، لن يشكل فارقًا خصوصًا أنه محسوم منذ اتفاق “سوتشي” الذي سمح بدوريات عسكرية، مقابل إيقاف العمليات العسكرية التركية، بالتالي فإن وجود هذه الدوريات يقي المنطقة من عمليات عسكرية جديدة.
الباحث بدر ملا رشيد، قال من جانبه إنه بناءً على بنود اتفاق “سوتشي”، يعتبر غياب الدوريات المشتركة تهديدًا لـ “قسد ” وليس استمرارها.
وأضاف أن استمرار الدوريات من الممكن أن يفتح آفاقًا للمفاوضات بين أنقرة ودمشق، ليشمل بصيغ اقتصادية مناطق شرق نهر الفرات حيث تسيطر “قسد”، وفي أفضل الحالات بالنسبة لـ”قسد”، يمكن أن يفضي الأمر لتفاهم ثلاثي بين النظام وروسيا وتركيا على قبول الأخيرة بصيغة “إدارة محلية موسعة”، مقابل توسيع حدود مناطق الدوريات والتأكد من انسحاب “قسد” من مناطق حدودية أخرى مع تركيا.
وأشار ملا رشيد، خلال حديثه لعنب بلدي، إلى أنه من الممكن للنظام اليوم أن يلعب دور وسيط غير مباشر بين “قسد” وتركيا، بهدف الوصول إلى صيغة تتيح له تحكمًا أكبر بالمناطق الحدودية.
ما اتفاق “سوتشي”
وقع الرئيسان التركي والروسي، رجب طيب أردوغان وفلاديمير بوتين، بروتوكول إضافي في 22 من تشرين الأول 2019، في مدينة سوتشي، بشأن مناطق شمال شرقي سوريا، بعد أن كان الاتفاق يعرف باسم “اتفاق خفض التصعيد” ويرتبط بمناطق سيطرة المعارضة السورية في إدلب وحلب.
ونص البروتوكول الإضافي في الاتفاق على سحب “قسد” من الشريط الحدودي لسوريا بشكل كامل، بعمق 30 كيلومترًا، خلال 150 ساعة، إضافة إلى سحب أسلحتها من منبج وتل رفعت.
وقضى أيضًا بتسيير دوريات تركية- روسية بعمق عشرة كيلومترات على طول الحدود، باستثناء القامشلي، مع الإبقاء على الوضع ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين.
وبدأت الشرطة العسكرية الروسية بتسيير دورياتها على الحدود السورية التركية للمرة الأولى، بعد يومين من توقيع الاتفاق، في 25 من الشهر نفسه.
الاتفاق جاء بعد عملية عسكرية بدأتها تركيا تحت اسم “نبع السلام” في تشرين الأول 2019، ضد “قسد” وعمادها العسكري “وحدات حماية الشعب” (الكردية)، مع تقدم القوات التركية وحليفها المحلي “الجيش الوطني السوري” في منطقتي رأس العين وتل أبيض.
ولم تحدد “الإدارة الذاتية” موقفها بشكل رسمي من الاتفاق منذ ذلك الحين، فيما لم تعلن انسحابها من المناطق الحدودية، علمًا أن الاتفاق نص على انسحابها شرطًا لإتمامه.