الإنجاب وقطع النسل والسيطرة على السردية
لمى قنوت – رهام قنوت رفاعي
لا يمكن فهم بنية ومنهجية القوة الاستعمارية للاحتلال الصهيوني بمعزل عن سياسة التطهير العرقي المتبعة منذ حوالي 80 سنة وتسييس الإنجاب ودوره في صناعة “الأمة اليهودية”، فيربط الكيان الاستيطاني في خطابه وسياساته الإنجاب عند اليهوديات بمشروعه التوسعي وبآثار المحرقة النازية التي قُتل فيها 6 ملايين يهودي ويهودية، ومع الخوف المتأصل من هيمنة سكانية فلسطينية، تشجع إسرائيل على الإنجاب وتدعم علاجات الخصوبة وعمليات التلقيح الصناعي بضوابط صارمة لليهوديات، بينما تُغيّب الضوابط الصحية تمامًا في مراكز التلقيح الصناعي الموجودة في الضفة، مما يُعرض الفلسطينيات وأطفالهن وطفلاتهن للخطر.
بعد 7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023، قضت إسرائيل على أربعة آلاف من أجنة أطفال الأنابيب في قذيفة قرب أكبر مركز طبي للخصوبة في قطاع غزة وألف عيّنة من حيوانات منوية وبويضات غير مخصبة، في حين سمحت، وبشكل استثنائي، بسحب الحيوانات المنوية من جثث جيشها دون الحاجة للحصول على إذن قضائي وموافقة المحكمة من أجل حفظها بالتجميد للإبقاء على فرصهم بالإنجاب، وأنشأت وزارة الصحة وحدة خاصة تعمل 24 ساعة على مدار الأسبوع مع الجيش والمستشفيات التي تضم بنوك حيوانات منوية لإبلاغ العائلات بهذا الخيار وبأسرع وقت، وتُقدم مجانًا عملية تخزين الأجنة المجمدة لمدة خمس سنوات، لدرجة أنها في آذار 2022، حذرت من نفاد المساحات المخصصة للتخزين.
تسمح السياسات الإسرائيلية في عمليات التلقيح الصناعية لليهوديات باختيار الجنين الذكر في حال كن قد أنجبن أربع إناث سابقًا، وتعتبر أن قرار عدم الإنجاب أو الزواج من خارج المجتمع اليهودي يساهمان في “الهولوكوست الديموغرافي”، بينما وخلال الإبادة المستمرة للفلسطينيين والفلسطينيات في قطاع غزة، واستهداف المستشفيات ومنع دخول المستلزمات الطبية المنقذة للحياة، صرح الدكتور محمد صقر، مدير التمريض في “مجمع ناصر الطبي”، بأنه “إذا كان الموت هو قدر الفلسطينيين، وإذا كان إطلاق النار عليهم ضرورة، لا تستهدفوا العشرات أو المئات منهم في آن واحد، كي يتسنى لنا على الأقل إنقاذ الأطفال والنساء، أصبحنا كطواقم طبية، مع شح المستلزمات، نركز على إنقاذ الأطفال والنساء كي نحافظ على العرق الفلسطيني في قطاع غزة”، ثم ناشد صقر أحرار العالم وأصحاب الضمائر الحية في كل مكان وترجاهم بأن يضغطوا على الاحتلال ليُدخِل ما يلزمهم في “مجمع ناصر الطبي”، “إنقاذًا للعرق والجنس الفلسطيني في القطاع”.
أتت هذه المناشدة في ظل الإبادة الجماعية الممنهجة التي محت، وبشكل كامل، 500 أسرة من السجلات المدنية، بحسب ما وثقه الدفاع المدني في القطاع، بسبب استهداف المربعات السكنية وضرب القطاع بأسلحة الدمار الشامل التي يباهي باستخدامها جيش الاحتلال على حسابات الجنود والجنديات على منصات التواصل الاجتماعي، التي قد تبدو للوهلة الأولى وكأنها فيديوهات عشوائية ساخرة من الإبادة صُوِرت ونُشِرت من باب التسلية والفتور واللامبالاة، إلا أنها عبارة عن محتوى إعلامي خاضع لتعليمات مرؤوسي القوات وضوابط وحدة خاصة تُعاين المحتوى قبل نشره، وهو جزء من إدارة الحرب والتحكم بالسردية.
سياسة كمّ الأفواه على الأرض
منذ 7 من تشرين الأول/أكتوبر حتى اليوم، وثقت نقابة الصحفيين الفلسطينيين ارتقاء 160، واعتقال 51، وجرح 185 صحفيًا وصحَفية، وتدمير 86 مؤسسة إعلامية، وفي التقرير السنوي للجنة حماية الصحفيين، شكّل الفلسطينيون بنهاية عام 2023 حوالي 75% من الصحفيين الذين قضوا حول العالم، وهي كانت حصيلة ثلاثة أشهر فقط من حرب الإبادة على غزة، وتشير عدة تقارير استقصائية لمنظمة “مراسلون بلا حدود” إلى حوادث استهداف مباشرة ومتعمدة من قبل قوات الاحتلال للصحافة، كاستهداف مراسل “رويترز” عصام عبد الله في جنوبي لبنان، واستهداف مجموعة من الصحفيين الذين كانوا يرتدون سترات تحمل إشارة الصحافة “PRESS”، في 18 من آب/أغسطس بغزة خلال تغطيتهم انسحاب القوات من خان يونس، حيث اقتربت منهم دبابة وأطلقت نيرانها عليهم مما أدى إلى ارتقاء الصحفي إبراهيم محارب وجرح الصحفية سلمى القدومي.
استهداف د. جمانة عرفة
برزت إعلاميًا حادثة استهداف الدكتورة الصيدلانية جمانة عرفة ورضيعيها التوأم وجدتهما، الذين ارتقوا جميعًا بينما كان زوج د. جمانة، محمد أبو القمصان، يستخرج شهادتي الميلاد الخاصة بالطفلين، وركز الإعلام التقليدي العالمي والعربي على فاجعة الوالد، وتم تداول فيديو لحظة تلقيه خبر استشهادهم ومقابلات معه على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه لم يتم تناول سبب استهداف شقة جمانة بضربة دقيقة سوى في فيديو لـ”التيك توكر” (TikTok-er) لوشيو ريكر الذي تُرجِم للعربية وأعيد نشره من قبل مجلة “ميم” الرقمية.
يوضح الفيديو الضربة الدقيقة التي استهدفت الشقة السكنية الطابقية التي كانت تقيم فيها د. جمانة عرفة، ويشرح كيف أن لتنفيذ مثل هذه العملية سيحتاج جيش الاحتلال لاستخدام تكنولوجيا عسكرية متطورة من صواريخ “J DAM”، وتحديد هدف الصاروخ باستخدام الليزر، مما يعني جمع معلومات استطلاعية باستخدام الأشعة تحت الحمراء لمعرفة من بداخل الشقة. يرجح الفيديو استهداف د. جمانة بسبب نشاطها التوثيقي لحالات قنص الأطفال الصغار في الرأس والصدر في غزة، خلال تطوعها في أحد المستشفيات خلال فترة حملها، ونشرها لذلك عبر صفحتها في “فيس بوك”. وعندما شكك البعض على منصة “ريديت” بصحة المعلومات الواردة عن الضربة، جاء الرد بفيديو آخر على صفحة لوشيو ريكر بالمصادر وأسباب هذا التحليل.
في هذا السياق، وبالرغم من وجود شهادات أخرى عن الاستهداف المباشر للأطفال عن طريق القنص، يكون استهداف د. جمانة دليلًا آخر على أجندة الاحتلال الإبادية والهوس بقطع النسل الفلسطيني، وتقاطعهما مع سياسة كمّ الأفواه والسيطرة على السردية، ففي وقت تسوي فيه إسرائيل المربعات السكنية بالأرض وتقتل الفلسطينيين المدنيين، رجالًا ونساء ومسنين وأطفالًا، من دون اكتراث للمساءلة أو للقانون الدولي، يدعو استخدامها تقنية الضربة الدقيقة لاستهداف شقة طبيبة متطوعة ورضيعيها إلى التساؤل عن السبب، ففي السياق العسكري وبحسب القانون الدولي الإنساني، تُستخدم الضربات الجراحية (surgical strikes) أو الضربات الدقيقة في هجوم عسكري لإلحاق الضرر بهدف “عسكري مشروع” لتقليل “الأضرار الجانبية أو الحد الأدنى من المعاناة الإنسانية”. ويحدد القانون الدولي شرعية الهدف عن طريق التمييز بين الأفراد والجهات المدنية والمقاتلين والمنشآت العسكرية، وبالتالي تعتبر إسرائيل المدنيين من أطباء وصحفيين محترفين ومواطنين صحفيين وأطفال أهدافًا عسكرية تستهدفها بشكل مباشر ومتعمد.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :