نتوسد الحذاء في سبيل “الثورة”!

  • 2024/08/25
  • 2:24 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

تكشف إجابة الدكتور أحمد طعمة لمحاوره في أحد اللقاءات التلفزيونية، عن سؤال الأخير بشأن سبب تمسك شخوص المعارضة السورية بمناصبهم رغم فشلهم في أداء الأدوار المنوطة بهم طوال العقد الماضي، بقوله، إنهم ولفرط اعتزازهم بالانتماء للثورة فهم متمسكون بتلك المواقع والمناصب، هذه الإجابة الصادمة والغبية تكشف عن ضحالة قلّ نظيرها، لا يمكن لأصحابها أن يكونوا يومًا من المؤمنين بالتغيير والمشتغلين عليه، ولا مؤمنين بأهمية التحول الديمقراطي الذي هو الهدف الرئيس لثورة الناس على سلطة القمع والاستبداد والاستئثار، وهو ما يجعل معاناة السوريين مضاعفة وكارثية.

مشهد توسد رأس السيد طعمة حذاءه في مطار “سوتشي”، يؤشر إلى تلك العقلية التي تقود العمل السياسي في مواجهة النظام، فلو أنه، هو وجوقة المعارضين، استعملوا رؤوسهم، لما كانت سوتشي وجهتهم ابتداء، ولما انقادوا لأوامر ونواهي الآخرين في الولوج لمتاهة مسارات تفاوضية موازية لمسار “جنيف” المستظل بمظلة دولية تتيح لهم هامش عمل ومناورة وانعتاق أكبر مما هو عليه واقعهم الآن، وارتهانهم ورهن القضية السورية معهم في بازارات هنا وهناك سقفها لا يتجاوز رقاب من اشرأبت أعناقهم وبترت في لحظة غدر، حددت للسوريين سقوفًا لا تتيح لهم حتى رفاهية الوقوف بلا انحناء فضلًا عن الانبطاح.

سوتشي المدينة الشركسية المغدورة، التي احتلها واستباحها الروس وهجّروا أهلها بعدما ارتكبوا فيها فظاعات ومجازر خلال القرن الـ19، تشبه كثيرًا ما فعلوه بالسوريين ربما بوسائل قتالية مختلفة، هي نفسها المدينة التي اختارها الروس لتدجين المعارضين السوريين وتقزيم مطالبهم إلى مجرد تغيير في الدستور أو تغيير الدستور لا فرق، تعقبه انتخابات “حرة” كحل سياسي للمقتلة السورية، وكل ذلك الحل المفترض يجب ألا يخرج بطبيعة الحال عن إطار ما قررته روسيا مبكرًا في تصريح شهير لوزير خارجيتها عام 2012، أنهم لن يسمحوا للمسلمين السنّة بحكم سوريا.

يا لبؤسنا، وبؤس أولئك المتنطعين الذين أعجزهم إنجاز أي شيء لقضيتهم خلال 13 سنة، ومع ذلك يصرون على البقاء في كادر المشهد، بل ويتبجحون بالقول في سبب انتقال عدوى الالتصاق بالمنصب إليهم، إنه افتخار بالانتماء لثورة أسهموا بغبائهم وضحالتهم في اغتيالها، ولم يعد لها من وجود إلا بقايا جثمان متعفن وبعض حالمين أن يحيي لهم الله عظامها التي صارت رميمًا.

كل ما يتم الاشتغال عليه الآن هو إعادة السوريين إلى “بيت الطاعة”، مع قليل من الرتوش السطحية، للقول إننا فعلنا شيئًا، وحققنا ما مكنتنا ظروف الصراع من تحقيقه، وينأى الجميع عن الاعتراف بالفشل والتنحي عن المشهد، لأنهم لا يريدون خسارة ذلك الشرف المروم بالانتماء لـ”الثورة”.

عقب لقاء رئيسي “الائتلاف” و”التفاوضية” مع وزير الخارجية التركي مؤخرًا في أنقره، أصدرت الأخيرة بيانًا أكدت فيه على “دعم بلادنا (أي تركيا) لجهود الحوار والتفاوض الهادفة والواقعية التي من شأنها تمهيد الطريق لحل سياسي شامل في سوريا على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم (2254)”، والواقعية هنا تؤشر بالضرورة لمعنى أن الصراع العسكري الذي حسم لمصلحة النظام والذي لا تسمح الظروف الدولية والإقليمية الحالية على الأقل بتغيير هذا الحال، يقتضي الامتثال لموجبات حل سياسي يتبنى مقاربات مختلفة لموجبات القرار الأممي تأخذ بالاعتبار وتعكس بالضرورة تلك النتيجة، فـ”الواقعية” نفسها التي “فرضت” على تركيا مصالحة “الأسد” ستفرض على المعارضة طوعًا أو كرهًا فعل ذلك.

لا يختلف مشهد توسد الحذاء في مطار “سوتشي” عن مظهر اللقاءات التي أجراها سرميني وعلوان وآخرون ربما، مع قادة الميليشيات الطائفية العراقية التي ولغت في دماء السوريين وأمعنت فيهم قتلًا، فمخرج المشهدين واحد، والرؤية الإخراجية لمتطلبات الحل المفترض ضمن مسار “سوتشي” الموازي هي واحدة، ومن ضمنها تلك اللقاءات والصور التي أريد من خلالها الجهر بها والإعلان من خلالها عن وجود دور وازن لإيران في الصياغة النهائية المتصوَّرة لهذا الحل.

هل من خيارات أخرى تخفف وطأة سوداوية هذا الصراع؟ أزعم أن كل الخيارات، التي ربما كانت ممكنة ومتاحة لدى المعارضة قبلًا، لم تعد اليوم كذلك، إلا اللهم خيار واحد متبقٍّ يحتاج إلى بعض شجاعة لا أكثر، هو خيار الامتناع عن قبول أي حلول لا تقيم وزنًا لمصالح الشعب السوري المكلوم ورفض الانخراط بها، حتى لو استعاد النظام كل المناطق الخارجة عن سلطته أو أعيدت له، وعدم الامتثال لعمليات التدجين الممنهج التي تفرضها القوى الإقليمية والدولية على المعارضة السورية. ويبقى الامتناع أكثر شرفًا من الامتثال لما يخالف منطق التسويات المعقولة والمقبولة.

فهل سيتمكن المعارضون المتعارضون من فعل ذلك؟ حدسي يؤشر لخلاف ما هو مأمول، فمن توسّد الحذاء في سوتشي بحثًا عن حلول متوهَّمة هو من مهّد الطرق لتكون موسكو صانعة الحل، الذي وضع وزير خارجيتها ابتداء إطاره منذ عقد ونيّف، وهو عدم السماح للمسلمين السنّة بحكم سوريا رغم كل الهراء المتعلق بانتخابات “حرة” تعقب تدبيج الدستور!

رغم كل ذلك سأقول لكم: لا تصالحوا “أسدًا” استباح كل سوريا، وما تورع عن استعمال السلاح الكيماوي ضد شعبها ليبقى حاكمًا للمزرعة، ولا توقعوا معه أي وثيقة، لأنها وللمرة الأولى في تاريخ سوريا المعاصر ستسبغ الشرعية على نظامه الوراثي، وسيتوسد السوريون بعدها أحذيتهم على أرصفة العالم لقرن كامل.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي