عنب بلدي – حسام المحمود
أعادت التصريحات التركية الأخيرة المرتبطة بمسار التقارب مع النظام السوري، هذا المسار إلى المربع الأول الذي لا يزال عالقًا عنده منذ أكثر من عام، قبل إعلان روسيا رسميًا، في كانون الثاني الماضي، انهيار المسار السابق (الرباعية) في خريف 2023.
في 14 من آب الحالي، أكد وزير الدفاع التركي، يشار غولر، الشروط الدستورية والانتخابية لتركيا فيما يتعلق بالتطبيع مع النظام السوري، قائلًا إن “الإدارة السورية” (في إشارة إلى النظام) تتصرف وكأنها لا تريد فترة من السلام، مؤكدًا ضرورة تبني دستور شامل لسوريا.
الوزير التركي أكد أن تركيا لا يمكنها مناقشة الانسحاب من سوريا إلا بعد قبول دستور جديد وإجراء انتخابات وتأمين الحدود.
وأوضح أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يبذل جهودًا لخلق بيئة سلام في المنطقة، وقال، “يمكننا أن نبدأ محادثات سلام مع النظام السوري، لدينا شروط لبدء هذه المحادثات، النظام السوري يقول إذا أخبرونا بموعد الانسحاب سنلتقي، وهذا هو الحال”.
وتابع، “نحن نتصور الأمر على أنه (لا أريد العودة إلى السلام)”، وأضاف الوزير موجهًا الحديث للنظام، “أجرِ انتخابات حرة، ومن يصل إلى السلطة نتيجة لذلك، نقول نحن مستعدون للعمل معه”، وفق ما نقتله وسائل إعلام تركية.
الشروط التركية التي جاءت على لسان غولر، وإن لم تكن جديدة، لكن المختلف عودتها إلى الواجهة في الآونة الأخيرة ولأكثر من مرة، بعد تصريحات “تصالحية” من الرئيس التركي وصلت إلى حد الحديث عن لقائه المرتقب بالأسد، رغم عدم التوصل بعد لموعد محدد ومكان لعقد مثل هذا اللقاء إثر خصومة سياسية بدأت منذ عام 2011، حين انحازت أنقرة إلى جانب الثورة السورية واستقبلت ولا تزال أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري.
وكان وزير الدفاع التركي تحدث، في 12 من آب، عن شروط الانسحاب التركي من سوريا، وعن مسار التقارب مع دمشق الذي يراوح بين تصريحات قائمة على أساس “المد والجزر” من جهة، وإجراءات بدأت تتبدى معالمها على الأرض مؤخرًا.
وقال الوزير يشار غولر، إن تركيا قد تجتمع مع النظام السوري على المستوى الوزاري في إطار الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات إذا توفرت الشروط المناسبة.
وبحسب ما نقلته صحيفة “تركيا” عن غولر، فإذا تم استيفاء الشروط المناسبة يمكن لتركيا وسوريا عقد اجتماع على المستوى الوزاري في نطاق جهود تطبيع العلاقات، كما تحدث غولر عن شرط الانسحاب من الأراضي السورية الذي يتبناه النظام، موضحًا أنه لا يمكن لتركيا مناقشة تنسيق الانسحاب إلا بعد اعتماد الدستور الجديد في سوريا وإجراء الانتخابات وتأمين الحدود.
أزمة شروط
في مسار التقارب، الذي بدأ في 28 من كانون الأول 2022، وضم تركيا وروسيا والنظام السوري قبل انضمام إيران، طرح النظام السوري شروطًا وصفها الأسد بـ”الثوابت” في آذار 2023، على رأسها الانسحاب التركي من الأراضي السورية، وهو الشرط الذي رافق تصريحات النظام قبل وبعد كل جولات المباحثات التي جرت في تلك الفترة، من المستويات الوزارية والاستخباراتية ولقاءي وزراء الدفاع، وممثلي الأطراف المفاوضة.
الاندفاع التركي الأخير تجاه العلاقات مع النظام، الذي دشّنه أردوغان نهاية حزيران الماضي، حين أبدى استعداده للقاء “السيد الأسد” وفق تعبيره، قابله النظام بتصريح ودي في 15 من تموز الماضي، حين صحح مصطلح “تطبيع العلاقات” في معرض حديثه عن العلاقات التركية مع دمشق، وقال، “يمكن استخدام المصطلح مع عدو شاذ خارج عن منطق الأمور، كإسرائيل، فأن نقول نطبع فهو عملية قسرية، لأننا نريد أن نفرض علاقات طبيعية غير موجودة، أما عندما نتحدث عن بلد جار وعن دولة جارة، وهناك علاقات عمرها قرون طويلة، فالعلاقات يجب أن تكون طبيعية حصرًا، مصطلح التطبيع خطأ”.
هذا الود المفاجئ الذي لم يشِر صراحة إلى شرط الانسحاب التركي رافقه حديث عن ضرورة وجود أجندة للقاء الجانبين، وسبقه بيومين أول رد رسمي من النظام على التصريحات التركية الداعية للقاء أردوغان والأسد، فاعتبرت الخارجية السورية، في 13 من تموز، أن أي مبادرة في هذا الصدد يجب أن تبنى على أسس واضحة ضمانًا للوصول إلى عودة العلاقات بين الجانبين إلى حالتها الطبيعية.
وفي مقدمة هذه الأسس، وفق الخارجية، انسحاب القوات الموجودة “بشكل غير شرعي” من الأراضي السورية، ومكافحة “المجموعات الإرهابية” التي لا تهدد أمن سوريا فقط، بل أمن تركيا أيضًا، وفق بيان الوزارة.
على ضوء العودة للشروط تراجعت وتيرة التصريحات التركية، بعدما تحولت إلى مادة شبه يومية في وسائل الإعلام التركية موضوعها التنبؤ والتكهن بمكان وموعد لقاء أردوغان والأسد، قبل أن تشهر أنقرة مجددًا سيف شروطها تجاه شروط النظام.
الشروط التركية قدّمها وزير الدفاع التركي في أيلول 2023، من قبل، وتلخصت في إجراء انتخابات والتوصل لدستور جديد، وتشكيل حكومة تضم جميع فئات الشعب، مقابل الانسحاب من سوريا.
الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش، يرى أن الظروف التي تدعم مشروع التطبيع حاليًا مناسبة بقدر أكبر مرونة مقارنة بظروف المسار التفاوضي عند انطلاقه، لكن تشابك وتعقيدات العوامل الكثيرة في هذه العملية تستدعي “نضجًا كاملًا” للظروف لإنجاحها، في ظل وجود اهتمام متبادل من أردوغان والأسد بالتطبيع.
وفيما يتعلق بالشروط التركية للانسحاب من سوريا، أوضح علوش لعنب بلدي أن المطالب التركية مصممة للرد على السقف التفاوضي المرتفع لدى النظام السوري، ولتحديد المبادئ العريضة لأي تفاوض مستقبلي على الانسحاب، إذ لا تقدم تركيا هذه الشروط للتطبيع.
وتسعى أنقرة عبر هذه الشروط لإرسال رسالتين للأسد، تقول الأولى إنها مستعدة للتطبيع الذي يعود بالفوائد على الطرفين، ولا يمس بجوهر مقاربتها لتسوية الصراع وكيفية معالجة ملف وجودها في الشمال، والرسالة الثانية مفادها أن الاندفاع للتطبيع لا ينم عن ضعف، وإصرار الأسد على أولوية معالجة ملف الانسحاب لن يؤدي سوى إلى تقويض فرصة نادرة للتطبيع.
إيران على الخط
أعلن السفير التركي في طهران، حجابي كرلانجيتش، في 18 من آب، أن هناك حاجة إلى “دور إيران البنّاء” فيما يتعلق بتطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري.
وفيما يتعلق بطلب الرئيس التركي تطبيع العلاقات مع دمشق وشرط النظام السوري المسبق لانسحاب القوات التركية من سوريا، أوضح السفير في مقابلة مع وكالة “تسنيم” الإيرانية، أن تركيا واجهت مشكلات مع سوريا في الماضي لأسباب مختلفة.
وأضاف السفير التركي، “ربما كانت لإيران وتركيا وجهات نظر مختلفة حول هذا الأمر، لكن على أي حال، هناك مشكلة حقوق إنسان في سوريا”.
الدعوة التركية لطهران للتدخل في المسار، جاءت بعد حديث غير رسمي عن استبعاد إيران من المسار، في ظل الرعاية الروسية المستمرة للمسار من جهة، ومساعي العراق لترك بصمة في علاقات أنقرة ودمشق، إذ أشارت صحيفة “ديلي صباح” التركية، في 22 من تموز، خلال حديثها عن لقاء توقعت حصوله في آب بين الأسد وأردوغان في موسكو، إلى ترجيحات بعدم دعوة إيران للاجتماع الذي لم يحصل أصلًا.
الصحفية اعتبرت الاستبعاد المحتمل لإيران من الاجتماع مؤشرًا على خلافات ومنافسة بين موسكو وظهران، بشأن سوريا ومستقبل البلاد بعد الحرب، مرجعة أسباب الخلافات إلى حذر روسي دائم من قوة الميلشيات الموالية لإيران، غير المقيدة، والمتنامية في سوريا، ومستقبلها بعد الحرب، مع وجود خلافات حول القيادة والعمليات العسكرية واستخدام القواعد الإيرانية وموقف طهران المتشدد في المحادثات، بما في ذلك صيغة “أستانة” والنهج الإيراني تجاه إسرائيل.
هناك إدراك تركي متزايد للحاجة إلى إشراك طهران كوسيط في مشروع التطبيع لتعظيم فرص نجاحه، لأن إيران يُنظر إليها في الغالب على أنها عقبة مُحتملة أمام التطبيع، وأي انخراط إيراني في دعم هذا المشروع سيُعزز فرص نجاحه بالتأكيد.
محمود علوش
باحث في العلاقات الدولية
في اليوم نفسه، نفت الخارجية التركية ما جاء في الصحيفة حول زمان ومكان اللقاء، دون تطرق إلى مسألة استبعاد إيران، بينما أكد نائب وزير الخارجية الروسي، أندريه رودينكو، أن العلاقات بين روسيا وإيران ترتكز على أساس من الصداقة المتينة، لكنه قال أيضًا إن إيران كدولة ذات سيادة لها الحق في متابعة سياستها الخارجية كما تراه مناسبًا.
الباحث في الشأن الإيراني مصطفى النعيمي، أوضح لعنب بلدي، أن إيران تخشى من أي تقارب مع النظام السوري، ولا سيما بعد التقارب العربي، كون هذه الخطوات تشكل نذير إضعاف لدور إيران في المنطقة عمومًا وسوريا خصوصًا، ولهذا تحاول تعزيز حضورها في المشهد السوري والإقليمي والدولي، لدفع الأطراف الأخرى للتحاور معها، والتعامل معها كطرف قادر على ضبط المشهد.
النعيمي يرى أن إيران لم تحظَ بعد بهذا القدرة على التأثير السياسي، وما تقوم به من ممارسات عبر “الدولة الموازية” لا يمكن أن يبقيها ضمن المنظومة الدولية بشكل مطلق، كما أن جوهر التقارب يقوم على تفكيك المحور الإيراني في مؤسسة النظام، وهو ما لا يستطيع النظام تحقيقه بعد تغلغل إيران في مفاصل الدولة، وانقسام المحاور التي تحكم دمشق بين من ينتمي للمشروع العربي والمشروع الإيراني، وهما مشروعان غير متطابقين ما يعني أن مسار التصفيات بين المحورين سيستمر بين المحور الداعم للجهود العربية التي تنشد التهدئة، والمحور الإيراني الداعم للتصعيد في المنطقة.
إيران تحاول الضغط على تركيا عبر مسار تكون حاضرة فيه، لكن على ما يبدو أن التوجهات الدولية تشير إلى استبعاد إيران من أي حل مقبل في سوريا.
مصطفى النعيمي
باحث في الشأن الإيراني
وبيّن الباحث أن الرؤية التركية للحل في سوريا مكمّلة للمواقف الدولية الرامية للحل في سوريا عبر تنفيذ قرار مجلس الأمن “2254”، بما في ذلك إنشاء هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات وعودة آمنة للاجئين، لكن إيران تستثمر ضعف النظام للبقاء في سوريا.
ويبدو موقف موسكو في الوقت الراهن في أضعف حالاته أمام التوغل الأوكراني في الأراضي الروسية، ما قد ينعكس على الدور الروسي في سوريا، مع احتمال أن تفسح روسيا الطريق أمام المنظومة الدولية للتعامل مع التموضع الإيراني والتخلص من “المستنقع السوري” الذي دخلته مقابل حوافز لم تحققها أمام تموضع دولي كبير ومنافسة إيرانية في الجغرافيا والموارد الاستثمارية.
إجراءات على الأرض
بالتوازي مع التصريحات التركية التي نزعت “مكياجها” وعادت إلى إطارها الواقعي، حصلت على الأرض أكثر من خطوة تتناغم عمليًا مع مساعي موسكو للتقريب بين حليفيها “اللدودين”، وجاءت الأولى في 2 من آب، حين أعلنت روسيا إنشاء قاعدة عسكرية جديدة في منطقة عين العرب، في خطوة اعتبرها نائب مدير “المركز الروسي للمصالحة” في سوريا، أوليغ إيغناسيوك، تماشيًا مع الإجراءات المستمرة “للرقابة على نظام وقف العمليات القتالية بين الأطراف المتنازعة”.
في 7 من آب، نقلت صحيفة “الوطن” المقربة من النظام، عمن قالت إنهم “مراقبون للوضع الميداني”، أن إنشاء القاعدة العسكرية السورية- الروسية المشتركة في عين العرب، في هذا التوقيت الذي تسوده حالة من الوتر، يسهم في “طمأنة إدارة أردوغان بالحيلولة دون تنفيذ أعمال عدائية قد تنطلق من عين العرب إلى داخل الأراضي التركية”، وفق الصحيفة.
من جانبها، رحّبت تركيا بهذه الخطوة، وقيّمتها وزارة دفاعها على أنها إضعاف لوجود “المنظمة الإرهابية في المنطقة” (في إشارة إلى “قوات سوريا الديمقراطية” التي تعتبرها امتدادًا لـ”حزب العمال الكردستاني” في سوريا).
وإلى جانب هذه الخطوة، جرى، في 20 من آب، افتتاح معبر “أبو الزندين” بمدينة الباب، شرقي حلب، بين مناطق سيطرة النظام، ومناطق سيطرة المعارضة التي تديرها “الحكومة السورية المؤقتة”.
ويتيح هذا المعبر مرور البضائع بين منطقتي السيطرة، بالإضافة إلى كونه بوابة الوصول البري للبضائع التركية التي يفترض أن تتابع طريقها نحو مناطق سيطرة النظام وصولًا إلى دول الخليج، كمسار بري لنشاط التصدير التجاري التركي، في حال جرى تشغيله بصورة طبيعية، كون المعبر متوقفًا عن العمل تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية ورفض مقاتلين محسوبين على “الجيش الوطني السوري” عبور شاحنات نحو مناطق سيطرة النظام، والقصف المدفعي المجهول المتكرر الذي تعرض له اعتبارًا من 21 من آب، مع استمرار الاحتجاجات والاعتصام المستمر رفضًا لفتحه.