12 عامًا على مجزرة داريا.. المحاسبة لم تبدأ بعد
“لا أنسى صورة ذلك الشيخ الذي كان جالسًا على كرسيه وجبهته فوق القرآن الكريم بعدما قتله شبيحة الأسد بدم بارد”، مشهد مفجع من بين مئات المشاهد المؤلمة التي لا تغيب عن ذهن عائشة الديراني، إحدى الشهود على مجزرة داريا الكبرى التي نفذتها قوات النظام وميليشياته على مدار خمسة أيام من 20 وحتى 25 من آب 2012.
12 عامًا مضت على مجزرة داريا، ومازالت تفاصيلها عالقة في أذهان الأهالي، بينما لا يزال الجناة بلا محاسبة رغم فظاعة الانتهاكات في المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 700 قتيل.
وقعت مجزرة داريا بعد أسابيع من تفجير عُرف باسم “خلية الأزمة” في 18 من تموز 2012، قُتل خلاله أربعة من كبار قادة النظام الأمنيين في ظل تصعيد عسكري عاشته سوريا حينها.
النظام قرر بعد أكثر من شهر الانتقام من مقتل كبار ضباطه بمذبحة في داريا، ففي 20 من آب 2012، بدأ بقطع الكهرباء والاتصالات عن المدينة في ثاني أيام عيد الفطر، قبل فرض حصار عليها، ثم قصفها بسلاح المدفعية والدبابات وقذائف الهاون والغارات الجوية.
عائشة الديراني (65 سنة) من سكان داريا، وتعرف بلقب “أم جوزيف” بين أقربائها وأبناء داريا، بعدما كانت تساعد بتهريب السلاح لمقاتلي داريا، كما كانت تفعل “أم جوزيف” في مسلسل “باب الحارة” والتي جسدت شخصيتها الممقلة منى واصف، عايشت أهوال المجزرة وشهدت تفاصيلها وآثارها التي صدم السكان بها بعدما انسحبت قوات النظام.
لحظات رعب توقف القلوب
وقالت عائشة، لعنب بلدي، إن “داريا شهدت قصفًا عنيفًا وفجأة عمّ الصمت أرجاء المدينة، صعدت إلى سطح منزلنا الذي يكشف كل داريا، فشاهدت أرتال النظام تتجه نحو حي الثورة الذي نقطن فيه”.
كانت عائشة مطلوبة من قبل المخابرات، فذهبت مع عائلتها للاختباء في منزل شقيق زوجها، هناك “سمعنا أصوات نساء وأطفال يصرخون وإطلاق نار متقطّع، حين علمنا أن ميليشيات تقوم بتصفية المدنيين، فأسرعنا للاختباء في قبو المنزل”.
فجأة اقتحم عناصر من “الشبيحة” المنزل، فشعرت عائشة بالفزع، “كاد قلبنا يتوقف من الرعب، فما هي سوى ثوانٍ تفصلنا عن الموت”، نزل أحد العناصر إلى القبو فاختبأت عائشة وبقية عائلتها في مكان مظلم، وقف العنصر قليلًا لتفقد المكان ولم ينتبه لوجود أحد، فخرج مع بقية الشبيحة نحو المنزل المجاور.
“وأنا أراقب خلسة ما يجري في شارعنا، شاهدت عناصر النظام يضرمون النيران في بعض المنازل بعد اقتحامها، كنوع من الانتقام من أصحابها في حال عدم وجود أحد داخل المنزل، وفي الجهة الأخرى رأيت شابًا يسحله الشبيحة على الأرض، ثم بدأوا بركله على رأسه بأحذيتهم بكل عنف حتى فارق الحياة أمامي”، أضافت عائشة.
جثث بالآلاف
في صباح اليوم التالي غادر الشبيحة حي الثورة الذي تقطن فيه عائشة باتجاه حي آخر في داريا، فخرج الناجون لتفقد جيرانهم وأقاربهم.
صعدت عائشة مع سائق من داريا خرج للبحث عن عائلته، وكان ينقل الجثث المرمية في الأرض إلى جامع “أبو سليمان”، كي يتعرّف عليها ذووهم.
عندما وصل إلى الجامع أنزل السائق بعض الجثث من سيارته، ليُصدم بوجود جثة وُضعت مسبقًا أمام المسجد لابنه الذي كان يحضّر نفسه للزواج بعد يومين، فسقط الرجل فوق جثة ابنه وبدأ بالصراخ، أضافت عائشة، “مشهد أليم لا يغيب عن بالي أبدًا”.
المجزرة “لم تخرج من داخلنا”
نزار الحو، من سكان داريا الذين نجوا من أهوال المجزرة لكن ذكرياتها الأليمة مازالت ترافقه حتى اليوم، وقال، “خرجت من داريا ولجأت إلى ألمانيا، لكن تفاصيل المجزرة لم تخرج من داخلي، فكيف لتلك المشاهد الفظيعة أن تخرج من ذهني وقد حفرت جرحًا عميقًا في قلبي”.
قُتل 17 شخصًا من عائلة نزار الحو، بينهم زوجته وطفلتاه، وأضاف لعنب بلدي، “حين اقتحمت قوات النظام داريا، كنت أعمل في أرضي، وحوصرت كامل المنطقة، اختبأت خلف الأشجار، وقلبي يرتجف خوفًا على عائلتي التي بقيت لوحدها في البيت”.
مضت ساعات ونزار محاصر داخل المزرعة، وفي صباح اليوم التالي انسحبت قوات النظام من المنطقة، فاتجه نزار مسرعًا نحو بيته، وكلّه أمل أن يجد عائلته على قيد الحياة، بينما كان يشاهد عشرات الجثث المحروقة أو المقطّعة الأوصال على الطرقات، وحين وصوله كانت الصدمة حين وجد جثث زوجته وطفلتاه على الأرض والدماء تغطيهم.
سقط نزار مغشيًا عليه من البكاء الممزوج بالحسرة، لأنه لم يفعل شيئًا لحمايتهم، وقال، “لم أكن أظن أن وحشية النظام تصل لدرجة قتل امرأة وطفلتين لوحدهما، تمنيت حينها لو أني ذهبت إلى البيت وقُتلت برصاص النظام في الطريق، بدلًا من أن أبقى مختبئًا في المزرعة”.
“رغم مضي 12 عامًا على المجزرة، ما زال شعور الندم والحسرة يعذبني حتى اليوم”، قال نزار.
عراقيل تعطّل مسار المحاسبة
بعد عشر سنوات من مجزرة داريا، أصدر المجلس السوري البريطاني، تحقيقًا في 25 من آب 2022، يوثق تفاصيل مجزرة داريا بمنهجية حقوقية، ويرصد كيفية مشاركة “الفرقة الرابعة” و”الحرس الجمهوري”، و”المخابرات الجوية”، و“حزب الله” اللبناني والميليشيات الإيرانية، في ارتكاب المجزرة.
وقالت المستشارة القانونية لدى “المجلس السوري البريطاني”، ياسمين النحلاوي، إنه عقب إنجاز التحقيق الخاص بمجزرة داريا، أرسله المجلس السوري- البريطاني بالإضافة للشهادات والأدلة والصور والفيديوهات، إلى الآلية الدولية المحايدة.
الآلية الدولية المحايدة هي مؤسسة أممية تجمع الأدلة الخاصة بجرائم الحرب المرتكبة في سوريا، بحيث في حال فتحت دولة ما تحقيقًا ضد مرتكبي الانتهاكات وجرائم الحرب في سوريا، فإن هذه الآلية تقوم بتزويد تلك الدولة بالأدلة والوثائق التي تخدم القضية.
وأضافت النحلاوي، لعنب بلدي، أن مسار محاسبة مرتكبي مجزرة داريا لم يبدأ بعد، لأن المحاكمات في أوروبا تعتمد على مبدأ الولاية القضائية، أي أنه يجب أن يتعرّف الضحايا على هوية أحد مرتكبي المجزرة، ويقدموا دعوى ضده بشرط أن يكون المجرم موجودًا في تلك الدولة الأوروبية، كما حصل في قضية أنور رسلان.
تحقيق المجلس السوري البريطاني، لم يستطيع تحديد هوية أفراد بحد ذاتهم، وإنما حدد الجهات التي ارتكبت المجزرة، والتي استطاع الشهود التعرف عليها من خلال لهجات أفرادها ولباسهم وشعاراتهم، كـ”المخابرات الجوية” و”الفرقة الرابعة” و”الحرس الجمهوري” وميليشيات من إيران و”حزب الله”.
وأشارت النحلاوي إلى أن عدم القدرة على تحديد هوية أفراد ارتكبوا مجزرة داريا أعاق عملية محاسبتهم وتحقيق العدالة القضائية لذوي الضحايا، لذا “عملنا في المجلس السوري البريطاني على تحقيق العدالة غير القضائية، عبر التذكير دومًا بمجزرة داريا ومن ارتكبها وتقديم الأدلة والشهادات حول المجزرة، لزيادة الضغط على المجتمع الدولي من أجل منع اعادة العلاقات مع نظام الأسد”.
شهدت داريا بعد المجزرة في نهاية عام 2012 قصفًا وحصارًا فرضته قوات النظام السوري لأربع سنوات، أسفر عن دمار كبير في بنيتها التحتية، وانتهى بتهجير أهلها المحاصرين ومقاتلي “الجيش الحر” في آب 2016.
ولم يسمح النظام بعودة أهل داريا، إلا بعد عامين كاملين على تهجيرهم، بموجب موافقات أمنية خاصة، بعد إعلانه بدء ترحيل الأنقاض وفتح طرقات المدينة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :