عنب بلدي – حسن إبراهيم
بصوت الربابة والمواويل السراقبية، بدأ حفل عرس الشاب محمود، المهجر من سراقب إلى مدينة إدلب، ثم بدأ مطرب بالغناء الريفي الشعبي رافقه دق الطبل، لتبدأ دبكة كبار السن (دبكة عرب)، خالقة أجواء فرح تعيد إلى أذهان الحضور بهجة لم تستطع هموم الحرب أن تفسدها.
منتصف آب الحالي، أقامت عائلة الشاب حفل عرس لابنها في صالة ضمن مدينة إدلب، أحياه مطرب شعبي، استمر نحو أربع ساعات، بدأ بعراضة ثم أغانٍ شعبية ودبكات، وصفها شقيق العريس بأن فيها “تراثًا وبعدًا عن الحركات الصبيانية”.
قال خالد لعنب بلدي، وهو شقيق العريس، إن الحفل كان فرصة لتجاوز ظروف التهجير والمعاناة والبؤس في المنطقة، مضيفًا أن من حق الناس أن يشعروا بالسعادة في أشد ظروفهم كآبة، كما يرى فيها فرصة لإحياء التراث واستذكار طقوس الاحتفال في مدينة سراقب التي نزح منها منذ عام 2019.
رغم وجود عراضة وسيف وترس، ذكر الشاب أن الحفل لا يكتمل دون ربابة وطبل، وهي طقس معتاد في سراقب، وعندما يبدأ المطرب بالغناء، عادة ما ينزل كبار السن (الكبارية) إلى منتصف الصالة ويبدؤون “دبكة عرب”، بعدهم ينزل الشباب بـ”دبكة ولدة ودبكة سريعة”.
ولم يطلق الحضور النار في الهواء لعدم الإزعاج واحترام ما تمر به المنطقة، وفق خالد الذي أضاف أن الحفل شهد تقديم ضيافة من الحلويات والفواكه والقهوة المرّة، لافتًا إلى أن العادة جرت وفق المستطاع، فهناك عائلات تقدم الحلويات أو الفواكه أو القهوة المرّة أو الشاي أو المشروبات الغازية.
يعد حفل عرس الشاب مظهرًا شعبيًا ينشط في الشمال السوري الذي يقطن فيه نحو 5.1 مليون شخص، وهو يكسر جبلًا من هموم راكمتها سنوات الحرب في قلوب الناس، ويخلق هذا النوع من الحفلات جو فرح وألفة وسعادة حتى لو كانت مؤقتة، وتبقي لحظات سعيدة خالدة في ذاكرة الأشخاص.
حفل “على قد الحال”
“بدنا ننسى هموم الحياة شوي، إذا بالعرس ما فرحنا ودبكنا، متى نفرح؟”.
أصر الشاب غزوان على إقامة حفل زفافه بوجود أغانٍ شعبية، عبر أجهزة صوت مع مداخلات غنائية وحماسية لقريب له كان يحمل “الميكروفون”، في محاولة منه لخلق جو من الفرح، وكسر جدار هموم لا تفارق ذهن الشاب، فواقع نزوحه إلى ريف إدلب الشرقي مرهق.
قال الشاب لعنب بلدي، لا ضير من إقامة حفل “بسيط” بإمكانيات متواضعة، وعيش ساعات من الفرحة مع الأهل والأقرباء، فقد بات من النادر وجود مناسبة سعيدة تجتمع عليها العائلات، وتكون على الأقل مختلفة عن اجتماعات الأقرباء في الأتراح وحالات الوفاة وحفر القبور والدفن والعزاء، التي شهدناها في فترة التهجير منذ 2019.
ورغم مضي عام على عرس الشاب، لا تزال ذكريات الحفل عالقة في ذهن العائلة والأقرباء، ومحفوظة في أجهزة الهواتف، يشاهدونها بين فترة وأخرى، ويسترجعون فيها جو الألفة والمحبة وطقوس الدبكة.
وأضاف الشاب أن “الحفل كانت ضيقًا وعلى قد الحال”، وأقامه في باحة منزل أهل العروس، وحلّ قريبه مكان المطرب وحرّك الأجواء، وتخلل الحفل بعض الرقصات، مع حضور الدبكة المعروفة كطقس أساسي وهي خطوات وحركات متسلسلة مع ضربات أقدام منتظمة على الأرض، واستمرت نحو أربع ساعات، انتهت بزفة إلى خيمته المجهّزة قرب معرة مصرين.
برقصة “القوصر”
تلجأ بعض العائلات إلى أماكن واسعة من ملاعب خاصة أو مسابح ومنتزهات لضم أكبر عدد من الأشخاص، على اعتبارها أماكن في الهواء الطلق، ويمكن استئجارها لساعات، وتوازي في تكلفتها بعد التجهيزات تكلفة الصالات الخاصة.
في تشرين الأول 2023، أقامت عائلة الشاب حسن حميدان عرسًا لابنها في مدينة إدلب، داخل مسبح كان بمنزلة صالة، أقيم فيه حفل العرس بحضور عشرات الأشخاص من الأقارب والأصدقاء.
قال الشاب لعنب بلدي، إن الحفل كان محدودًا على عكس ما اعتادته عائلته حين أقامت عرسًا لشقيقيه الأكبرين منه قبل سنوات، لكن حفل العرس بوجود أجهزة صوت وتصوير كان فرصة للفرح والبهجة، لعائلته من جهة، خاصة أنه الصغير (آخر العنقود)، ولأقاربه وأصدقائه من جهة أخرى.
وأوضح أن الحفلشهد استحضارًا لرقصة “القوصر” أو “الملوك”، وهي رقصة للمسنين و”الأكابرية” حسب قوله، إذ لا توجد فيها حركات اعتباطية إنما حركات “شموخ”، وحركات المد والقصر في الرجلين، بالإضافة إلى الدبكة ورقصات تراثية عربية.
ذكر الشاب أن الحفل كان برغبة وإلحاح من والده وأصدقائه، إذ لا يمكن أن يمر العرس دون حفل، وشهدت المناسبة أداء أغانٍ شعبية بعيدة عن الأغاني الهابطة، حسب قوله.
بالدولار مع “بعض التحفظ”
بحسب رصد عنب بلدي لأجور المطربين في الشمال السوري، فإنها تبدأ من 300 دولار أمريكي (نحو 10 آلاف ليرة تركية)، وتصل إلى 700 دولار (الدولار يعادل 15000 ليرة سورية و33 ليرة تركية).
في 22 من آب الحالي، أقام الشاب محمد بكار حفل زفافه في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، وقال لعنب بلدي، إنه تواصل مع مطرب شعبي لإقامة حفل، على اعتبار أن العرس مرة واحدة وفرحة واحدة لن تتكرر.
وذكر أن الأجور ليست ثابتة، ويمكن اختصار بعضها، ويعود الأمر إلى قدرة الشاب المالية، مضيفًا أن أجرة صالة العرس للرجال 300 دولار، وأجرة المطرب 350 دولارًا، وأجرة المصوّر 350 دولارًا (فيديو وصور)، وأجرة فرقة العراضة 200 دولار.
وتابع أن أجرة صالة النساء 200 دولار، والموسيقا (الدي جي) 150 دولارًا، وأجرة فتاة مصورة 150 دولارًا، يضاف إليها ثمن الضيافة التي تختلف وفق الصنف.
تعد التكاليف مرتفعة مقارنة بالوضع المعيشي والاقتصادي، إذ لا تتجاوز الأجرة اليومية للعامل ثلاثة دولارات، لكن غالبًا يتضمن الحفل وضع نقود أو جلب هدايا (ذبائح مثلًا) من بعض المدعوين، كما تحضر في بعضها عادة “الشوباش” وهو مبلغ يقدمه بعض المدعوين، ويذيعه المطرب خلال الحفلة.
بحسب رصد عنب بلدي، فإن هناك تحفظًا من بعض الأهالي على إقامة الحفلات بحضور مطرب، أو على الأقل عدم إظهارها للعلن (لايف) إلا بعد انقضائها، خشية احتكاك مع بعض الفصائل أو العناصر لأسباب دينية خاصة في إدلب.
طقوس متنوعة.. عراضة وإنشاد
تختلف العادات والتقاليد وطقوس الحفلات بين المناطق السورية، لكنها اجتمعت في الشمال الغربي بعد تنقلات كثيرة من النزوح والتهجير، وباتت أعراس لأبناء إدلب أو شمال حلب، تشهد العراضة الشامية أو الحمصية.
وانتشرت المجالس العربية التي تتوسطها المناقل والدلال للقهوة العربية في أثناء ولائم العرس أو عقد القران، ومعظمها عادات وتقاليد نقلها المهجرون إلى شمال غربي سوريا.
وتتعدد أذواق الشعب السوري تجاه الطرب والإنشاد، بحسب عادات وتقاليد كل منطقة في إحياء الحفلات، من الطرب الأصيل والغناء إلى الإنشاد السريع والرقص.
وتتكون عادة الفرق الإنشادية من رئيس الفرقة، الذي يدرب أفرادها على الإنشاد والمقامات، ونائبه، بالإضافة إلى “الكورال” وضابط الإيقاع والعازفين.
وتجلب بعض العائلات فرق العراضة، وهي فرق متخصصة بالرقص، تتميز بزيها الموحد، وتستعرض رقصاتها أمام فرق الإنشاد، وسط ساحة الحفل.
وعُرف في سوريا، خلال القرن الـ20، عشرات المنشدين الدينيين، ممن حازوا شهرة واسعة، وارتبط اسم بعضهم بشهر رمضان، كتوفيق المنجد وحمزة شكور وسليمان داود ومحمد الحكيم.