المفكر عبد الأكرم السقا.. بذرة التغيير التي حاول الأسد وأدها
لا تشبه داريا التي غادرها المفكر عبد الأكرم السقا مجبرًا إلى المعتقل في 2011 نفسها في 2024، ولا تتناغم مع الآمال التي كان يرنو لتحقيقها ابنها الذي ينشد التغيير وتحرر البلاد من “نير البعث” ومفرزاته.
وانهارت الآمال المعقودة والانتظار لموعد لا يحين، والتفكير بحال وصحة الغائب والتخيلات للقاء تقلّص السنوات الثقيلة تحقيقه، باكتشاف عائلة السقا وفاته قبل ثماني سنوات في معتقلات النظام السوري.
يأتي الحزن الذي يحمله نبأ الوفاة متأخرًا عن الكارثة من جهة، ومضاعفًا في مستوى الحسرة التي يواجهها ذوو المعتقلين السوريين في سجون النظام السوري، دون توقف.
لا قبر تزوره العائلة
في 21 من آب، أعلنت عائلة السقا بعد اعتقاله منذ 13 عامًا (في تموز 2011)، تقييد وفاته في السجلات المدنية نهاية 2014، دون استلام جثمان أو تحديد سبب وفاة، أو قبر تزوره العائلة وطلاب السقا ليبكوا فقيدهم.
عبد الأكرم السقا من مواليد مدينة داريا 1944، عالم دين، ومفكر إسلامي معاصر، وكان إمامًا وخطيبًا لجامع “أنس بن مالك” في مدينة داريا بين عامي 1988 و2000.
ويعد من أتباع مدرسة اللاعنف التي نظّر لها المفكر الإسلامي جودت سعيد، وهو من المفكرين الإسلاميين المجددين، ومؤسس الجمعية الخيرية والثانوية الشرعية في مدينته.
وللسقا عدد من المؤلفات، منها كتاب “الصيام”، “لا يمسه إلا المطهرون”، و”مؤمن آل فرعون”، و”قيمة الفقه في حياة الإنسان”، و”الدعوة إلى التغيير”، و”رؤى في الفكر والقلب”، و”في ظلال سورة البروج”، و”حسن الاختيار واجب وضرورة”.
مجموعة “معتقلو داريا” وثقت خمس مشاهدات للسقا في المعتقل، في آذار وتموز وآب 2012، في فرع “المخابرات الجوية- فرع باب توما”، ومشاهدة في 17 من أيلول في العام نفسه، في مقر “الشرطة العسكرية” في القابون، والأخيرة في سجن صيدنايا عام 2013.
إعلان الوفاة المتأخر الذي استحضر الحدث في وجدان العائلة وأهالي المدينة يعكس في الوقت نفسه الكثير عن “سوريا آمنة” يحاول النظام تصوريها، دون التفات أو نقاش أو مساومة على مصير أكثر من 136 ألف معتقل سوري في سجون ومعتقلات النظام، بلا جريمة أو جنحة.
ولم تشفع للمعتقلين مساعٍ عربية تطرقت لأوضاعهم وضرورة الإفراج عنهم، ولم تمنحهم مراسيم “العفو” الـ23 التي أصدرها رئيس النظام، بشار الأسد، منذ عام 2011، حريتهم المأمولة، أو حرية من بقي منهم حيًا، في ظل إعلانات متتابعة عن وفيات مسجلة بتواريخ قديمة لمعتقلين ما يزال أحبابهم وعائلاتهم أسرى الانتظار.
اعتقال مع الطلاب
بعد اندلاع الاحتجاجات السلمية المطالبة بإسقاط النظام ورحيل الأسد عن السلطة، ساند عبد الأكرم السقا الحراك الشعبي، وشارك طلابه في المظاهرات التي شهدتها المدينة، لتداهم قوات النظام منزله في 15 من تموز 2011، بعد مراجعات للأفرع الأمنية على مدار أربعة أشهر.
تجربة السقا الأخيرة مع المعتقل لم تكن الوحيدة، إذ واجه منذ عام 2000 أكثر من تجربة متفاوتة المدة، بشكل فردي أو مع بعض طلابه.
وإبان الغزو الأمريكي للعراق في 2003، قاد السقا أنشطة احتجاجية سلمية في مدينة داريا ضد غزو البلد العربي الجار، إضافة إلى حملات توعية في داريا ضد التدخين وانتشار الرشوة، ولمقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية، فاعتقلته المخابرات العسكرية مع 24 من طلابه، واستمر اعتقاله حينها لـ11 شهرًا، بينما بلغت فترة اعتقال بعض طلابه نحو عامين ونصف، وأحيل بعضهم إلى المحكمة الميدانية العسكرية في قضية عرفت باسم “معتقلو داريا”.
رئيس “المجلس السوري- البريطاني”، الدكتور هيثم الحموي، أحد طلاب السقا في تلك الفترة، وأحد المعتقلين معه، وهو صهره أيضًا، أوضح لعنب بلدي أن العائلة اكتشفت وفاة عبد الأكرم السقا عن طريق الصدفة خلال مراجعة للسجلات المدنية، وحصلت على بيان وفاة بتاريخ تشرين الثاني 2014.
الحموي لفت أيضًا إلى مرحلة الاعتقال التي عاشها مع رفاقه وأستاذهم، موضحًا أنه بقي في المعتقل بعد خروج السقا، كونه كان محكومًا عليه بالسجن لأربع سنوات، قصى منها سنتين ونصف قبل إطلاق سراحه.
وقال الحموي، “كنا 11 شخصًا واجهنا أحكامًا بالسجن، تسعة منهم حكموا لثلاث سنوات، واثنان حكما بالسجن لأربع سنوات”.
العمل على الأرض
التعليم والتتلمذ على يد السقا في معهد “أنس بن مالك”، لم يكن مقتصرًا على المسائل الدينية، إذ كان يركز على ضرورة قراءة الكتب المتاحة، والكتب الممنوعة عن الناس، مع إتاحة الفرصة أمام الطلاب لتنمية ملكة الحوار والنقاش والتأمل الحر في النص الديني دون تقديس للتفاسير القديمة وآراء المحدثين، وصولًا إلى إنشاء مناهج تعليم دينية مستقاة من المذاهب الدينية الأربعة.
وبعد وفاة الأسد الأب عام 2000، إثر عقود من حكم طويل بلا انتخابات، لم يبث جامع أنس القرآن الكريم عبر مكبرات الصوت، ولم يدعُ السقا للأسد على المنبر، ليجري اعتقال عبد الأكرم السقا لشهرين في “فرع المنطقة”، ثم استدعاء لشعبة الأوقاف في دوما، ومنع الشيخ وطلابه من أي نشاط دون إذن مسبق، مع تجريده من مهمته كإمام ومدرس ومدير لمعهد تحفيظ القرآن.
في تلك الفترة، اتجه الطلاب نحو إقامة حملات اجتماعية وتوعية، بالإضافة إلى تأسيس مركز “سبل السلام” وهو معهد ثقافي في داريا أسسه الطلاب بكتبهم وحواسيبهم، وتولوا تجهيز البناء بالكامل، قبل تشغيله وتفعيل مسألة إعارة الكتب في المركز، ليجري تشميعه بالشمع الأحمر بعد أقل من أسبوع.
وجرت في تلك الفترة سلسلة استدعاءات أمنية لطلاب السقا، الذين كان يغذي فيهم الدافع لدراسة العلوم الإنسانية كوسيلة وبوابة لنهضة البلد، ليتحولوا مع الوقت إلى مجموعة “تنويرية” غير مؤذية، لا تنظّر على الشارع من بعيد، بل تنزل إلى الأرض وتشارك في كنس الطرقات، والتوعية بأضرار التدخين مثلًا، وتقرأ الكتب والمحاضرات في الأفرع الأمنية التي تستدعى إليها.
عبد الأكرم السقا كان يدعو طلابه إلى “فقه الفقه” من خلال فهم النص الديني بصورة تخدم مصالح الناس، وفهم مقاصد الشريعة، حتى يكون النص مع الناس لا ضدهم، وفق ما ذكره عبر تسجيل مصور، معتز مراد، أحد طلابه منذ تسعينيات القرن الماضي.
خسرت المجموعة التي أسسها السقا عددًا من أعمدتها خلال الثورة السورية، ومن أبرزهم الناشط اللاعنفي يحيى شربجي، الذي قتل تحت التعذيب في كانون الثاني 2012.
وشملت هذه الخسارات التيارات الأخرى في مدينة داريا، ففي عامي 2011 و2012، اعتقلت أجهزة الأمن عددًا كبيرًا من قيادات الصف الأول والناشطين في الحراك السلمي، وبعد سنوات من الانتظار تسربت أسماؤهم في قوائم لوفيات داخل سجون النظام السوري عام 2018، بعد تصفيتهم في ذات الفترة التي قتل فيها شربجي.
ومع هذه الخسارات، خرجت مجموعة السقا من إطار الحراك المحلي في داريا ومحيطها، التي أعادت أجهزة الأمن السيطرة عليها إثر مجازر بحق المنتفضين، إلى نشاط أوسع، وتعمل في أكثر من مسار مدني وسياسي بهدف تحقيق التغيير في سوريا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :