السخرية لدى السوريين.. الهروب من واقع لا قدرة على تغييره

المطرب حسين بدران من أغنية "ينعن عرض المصاري" في حفلة بمدينة هامبورغ بألمانيا (حساب بدران/ يوتيوب)

camera iconالمطرب حسين بدران من أغنية "ينعن عرض المصاري" في حفلة بمدينة هامبورغ بألمانيا (حساب بدران/ يوتيوب)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حسام المحمود

“يسفرونك يا حجي، من مشيتك مبين إنك سوري”، هذا جزء من تسجيل صوتي غزا وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرًا وصولًا إلى تحويله لأغنية ساخرة بلحن غير أصيل (ليس خاصًا بالكلمات) تتناول مسألة الترحيل القسري للاجئين السوريين لمجرد أنهم سوريون، ولاقت تفاعلًا من قبل المتلقي حتى لو لم يكن سوريًا.

لا تعتبر السخرية حالة طارئة في حياة الشعوب عمومًا والسوريين خصوصًا، رغم مرورها ببعض المتغيرات التي يفرضها الظرف والحالة السياسية والاجتماعية على مدار أكثر من عقد من الزمن، فإذا كانت الدعابة والنكتة لدى السوريين محصورة سابقًا بإطار اجتماعي خفيف قد يحمل أو لا يحمل نقدًا لظاهرة اجتماعية، فإن كسر حاجز الخوف والانطلاق نحو حرية تعبير أكبر غذّاها الاغتراب والخروج من قبضة السلطة الحاكمة ولّد بعدًا آخر لهذه السخرية، لتستهدف السلطة السياسية ومواقفها السياسية من جهة، إلى جانب ما يواجهه السوريون في بلدان الاغتراب من قضايا ومواقف.

كما أن الفترة التي سبقت الثورة السورية عام 2011، كرّست السخرية في إطارين، أحدهما فني، من خلال “اسكتشات” (لوحات ومشاهد قصيرة) مكتوبة بعناية لتنتقد فكرة أو حالة أو ظاهرة ما، كالذي كان يقدمه مسلسل “بقعة ضوء” ضمن إطار ما يعرف بـ”الكوميديا السوداء”، فيضحك المشاهد على معاناة أبطال اللوحة الدرامية، التي لا تنفصل ربما عن معاناته، إلى جانب صفحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي كانت بعيدة عن الحالة السياسية أو المساس بـ”الخطوط الحمراء” التي رسمتها السلطة للنقد بأشكاله، والسخرية أحدها.

انتشار أوسع.. وسائل التواصل تساعد

من الناحية التقنية، ساعد بروز دور وسائل التواصل الاجتماعي في تعزيز تداول النكتة والدعابة، والمنشورات التي تتبنى السخرية، ليتبادلها جمهور المستخدمين عبر التعليقات والرسائل المباشرة، ويطفو على السطح من وقت لآخر تسجيل أو مقطع مصور أو صورة ما، تتحول إلى “تريند” بناء على محاكاتها لظرف راهن أو حدث يمر به فئات من السوريين بمعزل عن مكان الإقامة.

وإذا لم يكن السوريون سباقين في مجال الكوميديا والنكتة والسخرية، كالمصريين مثلًا الذين سخّروا الصوت والصورة والقلم جزئيًا في الإطار الساخر، فلديهم على الأقل استجابة عالية وسريعة لـ”التريند”، إذ تظهر خلال أيام الأغنية المشتقة من فكرة “التريند” كترحيل اللاجئين السوريين قسرًا، فضلًا عن أغنيات أخرى تعالج قضايا غير مستعجلة، أو غير طارئة، ولها استمراريتها، كبعض الأغنيات التي قدمها الشاب السوري حسين بدران، وتتحدث إحداها عن تحويل الأموال للأهل والمقربين في سوريا، بينما تتحدث أخرى عن أسلوب وآلية التدخين وضرورة التوجه نحو “التتن” بدلًا من السجائر الجاهزة بغرض توفير المال وإرساله للعائلة.

 

ليث، شاب سوري مقيم في هولندا، يرى أن السخرية من القضايا التي يواجهها السوريون مسألة غير صحية لأنها تعتبر ضحكًا على المصيبة، وتمثل خضوعًا للمشكلة أو تقبلًا لها، موضحًا أنه لم يكن يتفاعل سابقًا مع حالات السخرية، ويرى فيها تكريسًا لليأس، لكن التفاعل الجماعي ولّد نوعًا من الانقياد يدفع للمشاركة في السخرية، بصورة تشبه الثورة على ما لا يتقبله الشخص، وفق ظروفه.

يرى الشاب أن السخرية الطريقة الفضلى مما هو متاح، فلا أدوات يقاوم بها السوريون أكثر من السخرية، فالمثل يقول: “بالضحك والأفراح بتنشفي الأرواح”، وهذه طريقة مقاومة ودفاع ضد ما هو مفروض حتى لا ينساق الناس للحزن، فلا حلول بديلة أكثر من الضحك على الأوجاع، وهذا يولّد بدوره نوعًا من تبلد المشاعر، فيتوقف الشخص عن الاكتراث الجاد بالمشكلة طالما أن أدوات التغيير غير متاحة أمام واقع مفروض، كون حياة السوريين مقيّدة ومحاصرة، وهي وسيلة تعبير تتيح للشخص التنفيس دون ذهاب إلى السجن مثلًا.

“إرهاب الجمهور” يهدد السخرية

من جانبه، يرى عمار اقطيني، وهو مدرّس فلسفة سابقًا في سوريا، أن الأحداث بسوريا في طور البداية مرت بحالة عفوية مبشرة، وكانت النفس هادئة توحي بإمكانية الوصول إلى حالتين، جدية وساخرة، قبل الوصول إلى حالة العنف، وتخويف الجمهور و”إرهابه”، بما يهدد أي حالة سخرية قد تبعد الموقف عن اتجاهات أكثر عنفًا.

كما أن تبني الجمهور لموقف يتعارض مع الآخر بشكل جاد، ولّد نوعًا من الرهبة، والسخرية مرحلة متقدمة من الوعي، وفق وجهة نظر الفيلسوف الألماني هيجل، والأطراف المتصارعة في سوريا لم تمضِ بالسخرية إلى الحالة الفنية.

عمار يرى أن حالة التعبير عن الصراع بأسلوب فني خالص، لم يبلغها الشاعر السوري، وهي مرحلة سابقة للسخرية، من وجهة نظره، وهو ما يفسر عدم وجود اتجاه ثابت للتعامل بسخرية مع المعضلة السورية.

وقد لا تصل السخرية، وفق عمار، إلى كوميديا الموقف، لكنها تخفف من وطء الضغط على الجمهور المتأثر بالحالة المنتقدة، لكن المطلوب كان الوصول إلى تعبير فني ساخر بدقة وذكاء من قبل فنانين حقيقيين لا هواة، لمعالجة المشكلات المستعصية بشكل ساخر، لتوسيع رقعة وصول المشكلة والتفاعل معها على مستوى يتخطى السوريين، فالكوميديا التي تناولت الحالة السورية تقتصر على إطار فردي، خلافًا لحالة التراجيديا التي عبّرت عن نفسها فنيًا بصورة أوسع، فيما يتعلق بالحدث السوري.

“الكوميديا هي كوميديا بقدر استطاعتها الاصطدام بالآراء الجدية والآراء التي تصدر انطباعات جادة وحازمة، وتنقل الموضوع باختلاف وجهات النظر ومستوياتها، آخذة بالاعتبار آراء مختلف الشرائح”، وفق رأي عمار.

تضارب آراء

من الناحية النفسية، يرى عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد، في ورقة بحثية بعنوان “الأنا والهو” (صدرت عام 1923) عن الفكاهة، أن داخل كل إنسان حيلة دفاعية، واستراتيجيات يستخدمها العقل الباطن للحماية من التوتر الذي تولده الأفكار أو المشاعر المرفوضة، معتبرًا أن العقل يستخدم أربعة أنواع من الدفاعات النفسية، مرضية وغير ناضجة، وعصبية، وناضجة، ويعتبر الفكاهة تعبيرًا عن الأفكار التي عادة ما تكون ذات طبيعة مؤلمة، فيحولها الإنسان إلى سلوك يعطي البهجة.

وبحسب ما جاء في كتاب “إنسان بعد التحديث” لشريف عرفة، يرى فرويد أن السخرية ولدت من رحم القسوة، وهي تعبير عن الوحشية والعنف، كما وجد العلماء أن من يستخدمون كوميديا الموقف في حياتهم اليومية هم أكثر اتزانًا وتصالحًا مع أنفسهم من الذين يستخدمون الكوميديا العنيفة القاسية (السخرية من الآخرين وإهانة النفس).

وكلما ارتقى الإنسان في مراحل التطور النفسي، استطاع الانفصال عن وجهة نظره الخاصة، ليرى نفسه من زاوية فكرية أخرى، وبالتالي يمكن أن يلمح أوجه الدعابة وأن يسخر دون شعور بالإهانة.

أما الفيلسوف الألماني هيجل، فيعتبر في كتابة “أصول فلسفة الحق” أن السخرية الرتبة الدنيا في سلم الأخلاق الذاتية، وهي اللحظة التي تنضبط فيها الذاتية، وتتجلى عبر نفيها المطلق، كون السخرية توجد مسبوقة باعتقاد يدرك باعتباره يقينًا ذاتيًا خالصًا ومطلقًا، يستبطن نقطة رسو مقصودة.

ورغم تضارب وجهات النظر الفلسفية والأخلاقية حيال مسألة السخرية، فهي مستمرة بالنظر إلى استمرار الظروف التي تبعث عليها على المستويات الفردية والجماعية، وتتحول في وقت ما إلى عامل مشترك يوحد طرفي القضية المتنافرين ربما، في ضحكة عابرة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة