الأولمبياد والسلام المفقود

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

مئات ملايين البشر تابعوا أولمبياد باريس 24، وكانت رسائل السلام تتعالى من ملاعبها، ومن الروح الرياضية التي يتعامل بها رياضيو العالم مع بعضهم، عكس الكثير من العسكر والسياسيين ورجال الدين الذين يعتبرون إلغاء الآخر هو هدفهم الأوحد.

انعقدت أولمبياد باريس بين 26 من تموز الماضي و11 من آب الحالي، ولكن حرب الإبادة في غزة لا تزال مستمرة، ولا تزال حرب الأسد على السوريين تتقلب ضدهم بأشكال دولية متعددة، وكذلك الأمر في السودان الذي نشهد فيه انكشاف الأكاذيب عن الشرف والمروءة مع حرب اغتصاب النساء بين الأطراف السودانية، التي عبّرت عن مكنونات من الأحقاد العسكرية والسياسية وشهية وحشية للشبق الجنسي.

تحدث العالم عن مشاهد المثلية ولوحة العشاء الأخير لدافنشي في حفل الافتتاح، واعتبرها الكثيرون انتهاكًا للدين المسيحي، متناسين أن تقليد العشاء ورسم اللوحات عنه أقدم من المسيحية، إذ توجد لوحات وثنية تتحدث عن نفس الثيمة، وهذا ليس دفاعًا عن الخطأ الذي تم ارتكابه واعتذرت عنه إدارة تنظيم حفل الافتتاح، وإنما تعبير عن رفض تضخيم حجم الموضوع ومحاولة جعله يطغى على رسائل السلام التي يرسلها الأولمبياد.

في فرنسا، ورغم الخلافات العميقة التي خلفتها إعادة انتخاب مجلس نواب جديد، أعلنت الأحزاب والحكومة الفرنسية عن هدنة فيما بينها احترامًا للأولمبياد الذي عاد لزيارة فرنسا بعد مئة عام من حلوله الأول ضيفًا على باريس في العام 1924، وأثبت الفرنسيون أنهم قادرون على جذب أنظار العالم وجعل عاصمتهم تتقدم في مكانتها كملتقى للسلام، وحصد الفرنسيون 64 ميدالية منها 16 ذهبية، وهذا إنجاز أولمبي لم يحصلوا عليه منذ العام 1900.

في بداية الأولمبياد، تم وأد عملية إرهابية استهدفت خطوط الاتصال بين القطارات السريعة، وكانت جريمة منظمة لم تتبين الأطراف الضالعة فيها، كما لم تكن منظومات التطرف الديني الإسلامي ضالعة في هذه العملية النوعية كما يبدو حتى الآن.

مشاهدة المنافسات الرياضية صارت برنامجًا يوميًا لمعظم العائلات في كل العالم، وقد تم بث هذه المباريات في فرنسا مجانًا على القنوات الحكومية (TF2-3-4-5)، واشتد الضغط على القنوات، حتى إن بث حفل الافتتاح شكّل ضغطًا كبيرًا على شبكة الإنترنت، وصرنا ننتظر المقاطع متأخرة ونحن نتابع عبر ساعات طويلة استعراض السفن في نهر السين وفرحة اللاعبين، والمشاهد الفنية التي استعرضت الشخصيات الرياضية وأهم النساء في تاريخ فرنسا، وكان مشهد الملكة ماري أنطوانيت وهي تحمل رأسها المقطوع من المشاهد الجميلة والمشغولة خارج البعد الوحشي، لكنه أثار سخط بعض العائلات الملكية الاستبدادية التي ما زالت متشبثة بإرث الملوك والحكام المتعنتين والمسيطرين على شعوبهم، ويرفضون التحول إلى أشكال الحكم الدستورية.

العرب حققوا الكثير من التقدم في المنافسات، وحصدوا 17 ميدالية، 7 منها ذهبية، ورغم أن هذه الإنجازات أقل من المأمول، فإنها تذكّر العالم بوجود مواهب عربية رغم محاولات وأدها من قبل الأنظمة الدكتاتورية التي تتجاهل المواهب الفردية والجماعية، وتعطي الأولوية للولاء والطاعة. ولا عجب أن نجد أن السباح الفرنسي ليون مارشان نال وحده 5 ميداليات ذهبية بينما 22 دولة عربية مشاركة لم تستطع أي منها تحقيق مثل هذا الإنجاز.

ومن الفرق التي لفتت أنظار العالم فريق اللاجئين الذين فروا من بلدانهم، ومنها سوريا، ولكنهم لم يتنازلوا عن مواهبهم، إذ ضم الفريق 36 رياضيًا وفازوا للمرة الأولى بميدالية برونزية، وسيشارك فريق آخر في الألعاب البارالمبية المخصصة لذوي الإعاقة اعتبارًا من الأسبوع المقبل.

الشعوب الإفريقية استطاعت أن تنافس على الكثير من الرياضات، وخاصة في ميدان الجري والقفز والملاكمة والجمباز، إذ كانت بعض هذه الرياضات حكرًا على روسيا وأوروبا الشرقية والصين والدول الأوروبية، وكانت بطلة الماراثون الهولندية من أصل أثيوبي سيفان حسن التي تم تكريمها في حفل الاختتام مدار نقاش وإعجاب شديدين، خاصة أنها ارتدت حجابها الأحمر في أثناء التتويج، بينما تمنع السلطات الفرنسية لبس الحجاب على لاعباتها، وهذا ما أثار نقاشات كثيرة داخل فرنسا وخارجها.

واستطاع السويدي أرماند دوبلانتيس القفز بالعصا الطويلة (أو الزانة) وإحراز رقم عالمي (625 سم) وسط تعاطف منافسيه معه، وتعاطف الجمهور، وصار نجمًا يعبّر عن روح الشجاعة وهو يتحدى الحواجز، ورغم فشله في مرتين، فإنه في المحاولة الثالثة قفز الرقم القياسي وسط تهليل العالم له.

انتابتنا روح متفائلة مع التضامن الكبير الذي لقيه هذا اللاعب، وأعجبنا بشجاعته التي نتمنى أن يتم تعميمها على السياسيين والعسكر ليقفزوا فوق الأحقاد والصعوبات، ويصنعوا السلام الذي ينتظره المعذبون في الأرض، وخاصة الغزيين والسودانيين والسوريين الذين صاروا موضوعًا للعنصرية والحرمان من أساسيات الحياة، ولعل العالم يحقق السلام الذي ترمز له الألعاب الأولمبية وهي تطوف بشعلتها على الدول والقارات، وتذكّرهم دائمًا بأهمية التوقف عن الحروب التي تندلع كل يوم وكل ساعة.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة