عنب بلدي – جنى العيسى
رغم حاجة الناس للاعتماد على الدفع الإلكتروني، فإن حجم الإقبال عليه في مناطق سيطرة النظام السوري بقي محدودًا لأسباب تتعلق بتدهور العملة من جهة، وسوء البنية التحتية لقطاع المصارف غير المجهزة لهذا النوع من التحول التقني من جهة أخرى.
وركزت حكومة النظام السوري خلال السنوات الماضية جهودها لتعزيز ثقافة الدفع الإلكتروني، إلا أنها باتت مؤخرًا أشبه بإرغام الناس على استخدامهم البطاقات المصرفية.
وفي 13 من آب الحالي، أعلنت وزارة المالية في حكومة النظام السوري اعتماد الدفع الإلكتروني في جميع محطات الوقود الحكومية العائدة لشركة “محروقات” في جميع المحافظات، مع الإبقاء على إمكانية الدفع نقدًا للراغبين.
نهاية حزيران الماضي، طالبت حكومة النظام جميع المواطنين من حاملي “البطاقة الذكية” بفتح حسابات مصرفية خلال ثلاثة أشهر، تمهيدًا لتحويل مبالغ الدعم النقدي إليها لاحقًا عند استكمال منظومة الدعم النقدي وجاهزيتها لخدمة الملف بشكل مناسب.
واعتبرت الحكومة، حينها، أن اشتراط فتح الحسابات المصرفية يتعلق بتمكين المواطنين من الحصول على مستحقاتهم الكاملة من الدعم، ومنع أي تعدٍّ على هذه المستحقات من أي جهات وسيطة قائمة أو محتملة، دون ذكرها بالتحديد.
توجه الحكومة نحو إرغام الناس على الدفع الإلكتروني يثير التساؤلات حول الأسباب الاقتصادية والنقدية التي تجنيها الحكومة من ذلك، بغض النظر عن جاهزية البنى التحتية غير المتوفرة بالكامل لخدمة هذا التحول، وطريقة تعامل الناس مع البطاقات البنكية في سياق التضخم وتراجع قيمة العملة.
حاجة ضرورية دون خدمات
تتواتر إعلانات حكومة النظام السوري حول تطوير خدماتها إلكترونيًا، لكن غالبًا ما تخفق هذه الخدمات في أداء غايتها بشكل تام لأسباب مختلفة.
وفي ظل المعطيات الاقتصادية في البلاد المتعلقة بنسب التضخم المرتفعة أو تدهور العملة، وما يترتب على ذلك من زيادة الحاجة إلى حمل فئات نقدية أكبر، تبرز حاجة السوريين إلى التحول نحو الدفع الإلكتروني لتسهيل حياتهم.
ومنذ عام 2011، سجلت قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي انخفاضًا كبيرًا، ما جعل من أكبر فئة نقدية سورية (خمسة آلاف ليرة سورية) في الأسواق اليوم تساوي أقل من نصف دولار أمريكي واحد، بينما كانت قيمة أكبر فئة مطروحة مطلع 2011 (ألف ليرة سورية) تعادل نحو 20 دولارًا أمريكيًا.
ونتيجة لهذا الانخفاض الكبير من جهة، والقوانين التي تجرّم التعامل بالدولار من جهة ثانية، فضلًا عن غياب التعامل بالحسابات البنكية لعدة أسباب، يضطر السوريون اليوم إلى تداول فئات نقدية بحجم كبير من العملة السورية، لكن المبلغ قد يبدو عاديًا إذا ما قيس بالدولار.
تخفيف النقد ودعم شبكاته
يعتقد الباحث السوري بمجال الإدارة المحلية والاقتصاد السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، أن التحول نحو الدفع الإلكتروني كان مدفوعًا باعتبارات عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، إدارة كمية النقد المتداول بالأسواق في ظل ارتفاع نسب التضخم، واهتراء العملة نتيجة التداول.
وأشار الدسوقي في حديثه لعنب بلدي إلى أن هذا التحول يوفر فرصًا اقتصادية لشركات الدفع الإلكتروني المرتبط بعضها بشبكات النظام الاقتصادية الرسمية وغير الرسمية، إلى جانب تقليل التكاليف المالية الناجمة عن طباعة الفواتير، وتجاوز مسألة تزوير العملة ما أمكن، كل هذا يدفع النظام مؤخرًا نحو هذه المسألة.
يمكن لهذا التوجه أن يحمل آثارًا إيجابية فيما يتصل بتسهيل المعاملات على المواطنين، عوضًا عن الوقوف لساعات في طوابير لدفع الفواتير، كذلك تسهيل معاملاتهم المالية والاستثمارية، إلا أن ذلك مرهون بعوامل عدة.
تتمثل تلك العوامل، وفق ما يرى الباحث، بحل المشكلات والتحديات ذات الصلة بالبنية التحتية لمنظومة الدفع الإلكتروني، كخدمتي الكهرباء والإنترنت اللتين تشهدان حالات انقطاع متكررة وضعفًا في التغطية، فضلًا عن ضعف التنسيق بين القطاعات الحكومية وغير الحكومية، وتوفر الكوادر المؤهلة لإدارة هذه المنظومة تقنيًا، وسهولة تعامل المواطنين مع هذه المنظومة وتطبيقاتها.
ومع ضعف توفر ما سبق أو غيابه، فإن الدفع الإلكتروني يصعب مشكلات الناس عوضًا عن حلها، بحسب الدسوقي.
الباحثة في الشأن الاقتصادي نجاح عبد الحليم، ترى أيضًا أن النظام السوري يسعى من خلال التحول نحو الدفع الإلكتروني إلى تعزيز سيطرته على الاقتصاد، إذ يتيح الدفع الإلكتروني للحكومة مراقبة النشاطات المالية.
يطمح النظام من خلال ذلك أن يعزز السيولة المصرفية، بالإضافة إلى التحكم في حركة الأموال، فضلًا عن تقليل الاعتماد على طباعة العملة الورقية التي فاقمت التضخم.
وتتفق نجاح عبد الحليم مع الباحث أيمن الدسوقي في فكرة أن الدفع الإلكتروني رغم أنه يحمل نظريًا بعض الفوائد على المدى البعيد، فإن تحقيق هذه الفوائد يتطلب توفر العديد من الشروط، مثل بنية تحتية قوية واقتصاد مستقر.
في ظل الأوضاع الحالية في سوريا، وما تعانيه من تدمير للبنية التحتية، وضعف الاتصالات، والانهيار الاقتصادي، من غير المتوقع أن يكون لهذا التحول أي أثر ملموس في الواقع، وفق الباحثة، مضيفة أن الفوائد المحتملة ستظل محدودة جدًا وغير قابلة للتحقيق في ظل غياب الظروف المناسبة.
وباعتراف حكومي، تحدث مدير بالقطاع المصرفي لصحيفة “الوطن” المحلية (لم تسمِّه)، في نيسان 2022، عن تراجع خدمة الصرافات في مناطق حكومة النظام، ملخصًا أسباب ذلك بعدة مشكلات، لم تفلح الحكومة بإيجاد حلول جذرية لها حتى الآن.
المواطنون يسايرون الحكومة
في مسح أجرته الأمم المتحدة عام 2022 للحكومات الإلكترونية، حلت سوريا في المرتبة 156 عالميًا من إجمالي 193 دولة، بينما وصل ترتيبها في عام 2020 إلى المركز 131 عالميًا، ما يشير إلى تراجع وضع الخدمات الإلكترونية بمرور الأعوام في سوريا.
الباحث في الاقتصاد أيمن الدسوقي، أشار إلى أن المواطنين لا يزالون يفضّلون التعاملات النقدية على الإلكترونية في ظل انخفاض الثقة بإجراءات وخطوات الحكومة فيما يتعلق بالمعاملات الإلكترونية المالية، إلا أنهم مضطرون إلى مسايرة هذه الإجراءات كونها إلزامية ولا يمكن تجاوزها.
الباحثة في الاقتصاد نجاح عبد الحليم، أشارت إلى أنه في ظل التضخم المتزايد وانخفاض قيمة الليرة السورية، من المتوقع أن يتجنب الناس وضع أموالهم في المصارف، إذ يجعلهم الاستقرار المالي أكثر اعتمادًا على الاحتفاظ بالنقد، خاصة في ظل غياب الثقة بالنظام المصرفي.
وعلى الرغم من دفع الحكومة نحو استخدام البطاقات البنكية، فإن السلوك الشائع سيكون الاستمرار في الدفع النقدي، مع تقييد استخدام الدفع الإلكتروني بالحاجات الضرورية فقط، وفق نجاح عبد الحليم.
سوريا في مؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية (EGDI)
يعرض مؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية، وهو مؤشر أممي، حالة تطور الحكومة الإلكترونية في الدول الأعضاء بالأمم المتحدة.
كما يقيّم أنماط تطوير المواقع الإلكترونية في كل دولة، ويأخذ المؤشر بعين الاعتبار خصائص الوصول، مثل البنية التحتية ومستويات التعليم، ليعكس كيفية استخدام الدولة تكنولوجيا المعلومات لتعزيز الوصول والشمولية لمواطنيها.
يعتبر مؤشر “EGDI” مقياسًا مركبًا لثلاثة أبعاد مهمة للحكومة الإلكترونية، هي توفير الخدمات عبر الإنترنت، والاتصال بالاتصالات السلكية واللاسلكية، والقدرة البشرية.
وتقع سوريا في المرتبة 156 من أصل 193 دولة مصنفة في إطار المؤشر على صعيد تطوير الحكومة الإلكترونية لعام 2022، بينما تحتل مرتبة أدنى على صعيد مشاركة السكان في الخدمات الإلكترونية، إذ تقع في المرتبة 185 من أصل 193.
وتظهر بيانات الأمم المتحدة أن سوريا تراجعت على صعيد تطوير الحكومة الإلكترونية منذ عام 2020، حين كانت تحتل المرتبة 131 من أصل 193 دولة، والمرتبة 106 من حيث مشاركة السكان في هذه الخدمات.