الأغبياء فقط من يطلقون النار على أقدامهم

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

العنصرية في تركيا ليست ظاهرة عرضيّة ولا هي حالة طارئة، وهي بالتأكيد ليست أيضًا شيئًا أصيلًا في تكوين الأتراك، بل هي شيء متوطن لدى قسم لا بأس به من المجتمع التركي، على الرغم من أن تركيا يمكن تصنيفها ضمن الدول الملجئة، باعتبارها استوعبت موجات هجرة ولجوء من دول شتى كالصينيين الإيغور، ومن القوقاز والبلقان والبوسنة وقبرص واليمن والعراق وليبيا وسوريا ومن روسيا وأوكرانيا، حتى صارت تلك المسألة قيمة راسخة في الوجدان المجتمعي العام. فلماذا يقفز شيطان الكراهية والعنصرية الآن ليعيد احتلال المساحات الضحلة في عقول قسم من الأتراك ضد اللاجئين، ولا سيما العرب وخاصة السوريين منهم، بل ويتعدى ذلك ليصل حتى للسياح ذوي السحنة العربية.

هل فيما سبق تناقض؟ إذ كيف يكون مجتمع ما ملجئًا وفيه عنصرية وعنصريون في آن واحد؟ لا ليس تناقضًا بل توصيفًا لواقع ظهرت تبدياته مترافقة مع أزمة اقتصادية طاحنة هوت بالليرة إلى مستويات قياسية مقابل الدولار، وجعلت حياة الناس أكثر ثقلًا، دون أن يكون ذلك هو السبب الوحيد لخروج شيطان العنصرية من قمقمه واستيطانه رؤوس جزء من المجتمع يرفض استخدام مادته الدماغية في التفكير ومقاربة الأسباب الحقيقية لحياته المأزومة.

العنصرية موجودة، ومن العبث إنكارها وتجاهل ارتداداتها، وقد أوضحت سابقًا في غير مقال أسبابها وتبدياتها حتى على فئات من الشعب التركي نفسه، وكذلك احتضان أعداد كبيرة من اللاجئين من دول شتى وإدماجهم ضمن بنية المجتمع سمة موجودة أيضًا، وبالتالي المسألة لا تناقض فيها وإنما هي توصيف حال يقول إن جزءًا من هذا المجتمع البسيط المتواضع لا يزال موتورًا وتعبث في عقله المغلق أفكار مرضية تصور له أنه شيء ما فوق بشري لا تصح مقارنته بغيره من الأقوام فضلًا عن رفضه مخالطتها.

وإذا اعتبرنا أن الأزمة الاقتصادية، والتي هي أزمة عالمية وليست تركية فحسب، هي المفجّر لكوامن العنصرية، فإن من بديهيات الأمور ومنطقها أن نعرف كيف نستثمر ما بين أيدينا من موارد لتخفيف آثار تدهور الوضع الاقتصادي على حياة الناس، وتوظيف كل الممكنات لامتصاص النسب المفجعة من التضخم، ومنها بطبيعة الحال المورد السياحي، وهو إحدى أبرز الموارد المهمة للاقتصاد التركي.

لذلك يبدو غريبًا ومنفّرًا حقًا أن يسلك بعض الأتراك سلوكًا طاردًا للسياح العرب، وهم السياح الذين ينفقون خمسة أضعاف ما ينفقه أي سائح من جنسيات أخرى، إذ يتراوح متوسط الإنفاق اليومي للسائح العربي في تركيا ما بين 300 و500 دولار يوميًا، ومن المستحيل أن ينفق أي سائح آخر أكثر من ربع هذه الأرقام، ومع ذلك، لا يلقى معاملة لائقة تعكس احترامًا له، بخلاف ما يلقاه السياح من أصحاب السحنة الأوروبية أو الصينية، بل غالبًا ما يقابل بسلوك متوتر وعدائي ممزوج بجموح غير مفهوم للاحتيال عليه وسلبه بعض أمواله بغير حق، ويتطور الحال في بعض الأحيان لاعتداءات جسدية لا تضمن مداها ولا آثارها، ربما فقط يكون سببها أن السائح يتحدث العربية، التي هي لغته، في تركيا التي لا يتقن ولا يتوقع منه أن يتقن لغتها.

هل تعرفون الغبي الذي يطلق النار على قدميه؟ هو تمامًا ذلك العنصري التافه الذي لا يريد سماع حرف عربي، رغم أن لغته متخمة بالكلمات العربية! ومع ذلك، فهو لا يصاب بالحكة التحسسية القومية عندما يسمع الروسية والأوكرانية واليونانية والإنجليزية، بل يطرب لسماعها في مؤشر لحالة استلاب بيّنة تجاه ما هو أوروبي بما يمكن تسميته بعقدة “الخواجا”. وهو الغبي الذي يظن أن معالجة أوضاعه المأزومة تكون بأن يصرف كراهيته تجاه من قد يسهم وجوده في التخفيف من وقع أزمته الاقتصادية.

في ولاية بورصة التركية، أعلن اتحاد السياحة والتجارة مؤخرًا عن انخفاض بنسبة 60% في عدد السياح نتيجة انخفاض نسبة السياح العرب، وتقول المؤشرات أيضًا، إن عدد الزوار العرب انخفض في اسطنبول من مليون و806 آلاف زائر عربي إلى 787 ألفًا فقط، أي أن اسطنبول وحدها خسرت أكثر من مليون سائح عربي هذا العام، لتأتي حادثة الاعتداء على سائح عربي، في 12 من آب الحالي، بمدينة طرابزون كإضافة قاتلة لموسم السياحة.

والحقيقة أن العنصرية الفظّة، والفجور في محاولات استغلال السائحين العرب، هي أبرز الأسباب بالتأكيد، ليس فقط لانخفاض أعداد السياح العرب الذين بدؤوا يجدون بديلًا أفضل وأرخص في اليونان والبوسنة وجورجيا، وهم مع الأسف محقون في ذلك، إذ لا يعقل أن تنبذني وتسيء معاملتي وتحاول دائمًا استغلالي وتبدي لي الكراهية، وفي نفس الوقت ترغب في أن أنفق أموالي عندك. إنها معادلة بلا حل لأنها معادلة غبية لا أكثر.

نحن هنا تحدثنا عن خسائر في قطاعات السياحة لا أكثر، وبالقطع فإن هذه العنصرية البغيضة لن تقتصر آثارها على هذا الجانب، فقد خسرت تركيا حوالي عشرة مليارات دولار في العام 2023 فقط بسبب تراجع الصادرات التركية إلى الدول العربية، ويتوقع خبراء اقتصاديون أن تتفاقم الخسائر أكثر في العام الحالي طالما استمر هذا الخطاب العنصري وبقي هذا التضخم.

هل أدرك أولئك المؤججون لخطاب الكراهية ضد العرب، وأولئك العنصريون الأغبياء، أن ما يفعلونه هو أنهم يطلقون النار على أقدامهم، التي يفترض أنهم سيحتاجون إليها لبدء مسيرة طويلة الأمد على مسار التعافي الاقتصادي، وأن تنشيط سوق السياحة التي يقتلونها، هو أحد أهم شروط هذا التعافي. أعتقد أنهم لن يدركوا إلا (ربما) عندما يجدون فنادقهم ومطاعمهم ومنتجعاتهم خاوية على عروشها يعبث فيها الهواء.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة