عنب بلدي – خالد الجرعتلي
تميل شريحة من السوريين منذ لحظة وصولهم إلى تركيا للبحث عن مكان إقامة يتركز فيه السوريون، ومنهم من يضيّق خياراته أكثر، إذ يبحث عن مكان تقيم فيه عائلات من أبناء محافظته أو مدينته.
ومع مرور السنوات، تشكّلت مناطق إقامة تركز فيها السوريون مثل حيي الفاتح وأسنيورت في ولاية اسطنبول، أو حيي الصحابية ودانشمنت في ولاية قيصري، أو محيط “سانكو بارك” (مركز تسوق) في غازي عينتاب، وغيرها في ولايات أخرى.
وعلى مدار سنوات إقامة السوريين في تركيا، ظهر مصطلح “الغيتو” لوصف تجمعات السوريين، وورد في بعض الأوقات خلال مناظرات بين طلاب وجامعيين، رصدتها عنب بلدي سابقًا.
يشير مصطلح “غيتو”(Ghetto) إلى منطقة تعيش فيها، طوعًا أو كرهًا، مجموعة من السكان تعتبرهم أغلبية الناس خلفية لعرقية أو ثقافة معيّنة أو لدين محدد.
وبحسب موسوعة “المعرفة”، يطلق المصطلح اليوم على المناطق الفقيرة حيث أُجبرت الأقليات القومية على العيش فيها بسبب الضغوط الاجتماعية والاقتصادية.
أطلق مصطلح “غيتو” سابقًا على معازل اليهود، أو على قطاعات في المدن الأوروبية استوطن فيها اليهود، أو أُجبروا على العيش فيها.
خيار طوعي حولته القوانين إلى قسري
انتقاء أماكن الإقامة بالنسبة للسوريين كان طوعيًا حتى مطلع عام 2022، عندما قررت الحكومة التركية إغلاق بعض الأحياء أمام الأجانب، وإجبار المقيمين في حي معيّن على الإقامة في نفس الحي، حتى لو قرروا تغيير منزلهم.
كان اختيار إسماعيل، وهو صاحب محل لبيع المواد الغذائية في ولاية هاتاي التركية، مدينة الريحانية من باب قربها للحدود السورية لا أكثر، ومع مرور الوقت، قرر فتح “بقالية” صغيرة، فنقل منزله إلى منطقة تُعرف باسم “بازار الأربعاء”، يتجمع فيها السوريون بالمدينة.
إسماعيل قال لعنب بلدي، إنه اختار هذا الموقع نظرًا إلى كثرة السوريين فيه، علمًا أن السوريين ينتشرون في كامل مدينة الريحانية، لكن “بازار الأربعاء” المكتظ قد يجعل من تجارته أكثر ربحًا.
ويقيم اليوم البقال السوري على مقربة من محله، لكن إقامته ليست مريحة، وفق تعبيره، إذ يخشى المشكلات التي تلاحق السوريين في البلاد والتعدي على محالهم التجارية، كما حصل في حزيران الماضي، لكن تزايد خطاب الكراهية ضد اللاجئين، يجعل من إقامته في منطقة بعيدة عن تجمع السوريين أكثر سوءًا، وفق تعبيره.
براءة، وهي من سكان ولاية قيصري، انتقلت حديثًا إلى ولاية اسطنبول، مشيرة إلى أن اختيار مكان الإقامة كان بالمقام الأول للبحث عن سبل الراحة، إذ توجد محال تجارية تبيع مستلزمات السوريين في الأحياء التي يتجمعون فيها بشكل رئيس، إلى جانب العيادات الخاصة التي يتحدث أصحابها العربية.
كما أن أماكن تجمع السوريين في قيصري كانت بناء على المحافظة التي ينحدرون منها، فتوجد في المدينة أماكن تجمع أبناء محافظة اللاذقية السورية، ومثلها لمحافظة حلب، ودمشق، وغيرها، وفق براءة، التي رأت في أماكن التجمع هذه محاسن ومساوئ.
وأضافت، وهي شابة عشرينية حاصلة على الجنسية التركية، أن هذه التجمعات أثرت سلبًا على اندماج سكانها بالمجتمع المضيف، خصوصًا أنهم ليسوا على تماس بالمجتمع التركي.
لم تختلف الحال كثيرًا بالنسبة لجودي المصري، وهي سورية تبلغ من العمر 21 عامًا، تقيم في حي الفاتح بولاية اسطنبول، وقالت لعنب بلدي، إنها اختارت الإقامة في هذا الحي بسبب جهلها باللغة وثقافة البلاد، إذ بحثت عن أكثر الأماكن التي تتوفر فيها مراكز طبية عربية، وأساتذة لغة تركية يجيدون العربية، وحضانات للأطفال، ومتاجر عربية.
وأضافت أن إقامتها في حي الفاتح الذي يشكل تجمعًا للسوريين، وفرت أكثر من وسيلة لتعلم اللغة التركية، لكنها أثرت بشكل سلبي على اندماج السوريين بالمجتمع المحلي، كونها تعزل المجتمع اللاجئ عن المجتمع المضيف.
لماذا يتشكل “الغيتو”
منذ البداية لم تكن تركيا مكان استقرار دائمًا للسوريين، بل كانت محطة عبور إلى أوروبا أو محطة مؤقتة لحين انتهاء الحرب في سوريا، وهو ما يفسر حالة عدم رغبة المجتمع اللاجئ بالمبادرة لمحاولة الاندماج بالمجتمع المضيف، وتشكّل أماكن إقامة خاصة بهم، إلى جانب أن تركيبة المجتمع السوري القادم إلى تركيا أسهمت بذلك أيضًا، وفق ما يراه الدكتور في علم الاجتماع صفوان قسام.
قسام قال لعنب بلدي، إن شريحة من الفئة الشابة غير المتعلمة أو التي تعمل في الصناعة والتجارة والأعمال الحرة تعلمت لغة بسيطة في الغالب، واندمجت وفق قاعدة تلامسها الدائم مع المجتمع المحلي بهدف قضاء غرضها من الإقامة في تركيا فقط، سواء العمل أو التجارة أو غيرهما.
أما الفئة المتعلمة فانعزلت على نفسها، وكان احتكاكها من باب العمل ليس أكثر، إلى جانب أن باقي فئات اللاجئين من كبار السن كان من الصعب عليهم تعلم لغة جديدة، ما أسهم في عدم اندماجهم بالمجتمع المضيف.
وأضاف قسام أن كبر المجتمع السوري وتنوع خدماته، وفر على السوريين تكبد عناء التواصل والاندماج مع المجتمع المحلي.
قسام قال أيضًا، إن بعض الممارسات العنصرية كان لها دور في إحجام الكثيرين عن الاندماج.
وأضاف أن الجيل الشاب في المدارس والجامعات كان اندماجهم عاليًا جدًا، لدرجة أنهم تماهوا مع المجتمع التركي، فلا تكاد تميزهم من بعضهم في معظم الأحيان.
وفي حالة شريحة من اللاجئين السوريين ممن اتخذوا قرار الاستقرار في تركيا، كان اندماجهم كبيرًا في المجتمع التركي من حيث تعلم اللغة، والتعامل التجاري، وحتى التقارب بالزواج وغيره.
ويرى قسام أن سلبيات تجمعات “الغيتو” ربما تكون كبيرة جدًا، لأنها تعزل الفئة التي تظهر رقي السوريين وتمدنهم عن المجتمع المضيف، خصوصًا أن ذلك تزامن مع تعويم لممارسات سلبية لبعض اللاجئين، وهو ما أضفى طابعًا سلبيًا على بقية السوريين وبالتالي دفع جميع اللاجئين ثمنه.
حالة عززها القانون
تجبر الحكومة التركية منذ عام 2018 اللاجئين السوريين على الإقامة في المدن التي وصلوا إليها أولًا، وسجلوا قيودهم الشخصية فيها، وتمنع سفرهم وتنقلهم بين الولايات، إلا بموجب استخراج “إذن للسفر” بصلاحية محددة، وتعتبر الموافقة عليه مشروطة أيضًا.
يجد السوريون المقيمون في تركيا، وخاصة في الولايات الحدودية، صعوبة بالغة في الحصول على “إذن سفر”، وخاصة إلى ولاية اسطنبول التي تحاول السلطات التركية تخفيف وجودهم فيها، ما يتركهم عرضة لاستغلال “سماسرة” يستخرجون لهم إذنًا مقابل المال.
التضييق يدفع كثيرين إلى التنقل بشكل مخالف (تهريب)، من خلال سيارات أجرة لا يمر سائقوها من الطرقات التي يعرفون مسبقًا بوجود حواجز تفتيش عليها، أو عن طريق حافلات السفر التي يحجزون تذاكرها عبر الإنترنت، ويتركون إمكانية غض طرف عناصر الأمن في حواجز التفتيش عن غياب “إذن السفر” للحظ.
ومنذ شباط 2022، صدرت تصريحات عن مسؤولين في الحكومية التركية حول خطة لتوزيع اللاجئين السوريين في تركيا على الولايات والمدن، في محاولة منهم لمنع إنشائهم تجمعات في مدن وأحياء معيّنة.
وأغلقت الحكومة التركية عددًا من الأحياء والمدن أمام السوريين على جميع الصعد، منها السكن والإقامة وتثبيت القيود، إذ تُرفض طلبات تثبيت السكن في مناطق مثل “الفاتح” في اسطنبول على سبيل المثال لا الحصر، حتى ولو كان الشخص يعمل في المنطقة ذاتها.
وبالنسبة للمقيمين في هذه الأحياء اليوم، لا يمكنهم الانتقال للعيش في أحياء أخرى مغلقة، ما حافظ على شكل “الغيتو” الموجود في المدن التركية، لكنه حال دون زيادته.
زادتها العنصرية
آراء اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، ممن قابلتهم عنب بلدي، انقسمت بين من اعتبر أن موجات العنصرية التي زادت وتيرتها منذ عام 2020، شكّلت دافعًا للإقامة في مناطق يكثر فيها لاجئون، بينما كان العكس بالنسبة لآخرين.
الشاب إسماعيل، يعتقد أن الإقامة في حي يقل فيه وجود السوريين ليس اختيارًا مناسبًا له، خصوصًا أن الخطاب العنصري المتصاعد يجعله يشعر أنه مستهدف، وهو ما تراه براءة أيضًا.
وتعتقد براءة التي عاشت أحداث قيصري، عندما تعرض حي دانشمنت الذي يقيم فيه السوريون لاعتداءات طالت منازلهم ومحالهم التجارية، أن الإقامة في أماكن محددة لشريحة واسعة من السوريين تجعلهم هدفًا لأي هجوم عنصري، كما حدث في مكان إقامتها السابق نهاية حزيران الماضي.
ويعتقد علي، يقيم في ولاية مرسين، أن الإقامة في أحياء تشارشي أو بالقرب من البلدية، حيث تتركز أماكن إقامة السوريين، سلبية بالمطلق، وقد يكون ضحية لأي مشكلة تحدث مع أي شاب سوري في هذه المنطقة.
ويرى أنه في حال نشوب مشكلة بين شاب سوري وآخر تركي، يعتقد الأخير أن كل من يقيم في هذه المنطقة يمثل الشخص الذي واجه مشكلة معه.
واستُغلت ورقة اللاجئين السوريين خلال السنوات الماضية من قبل أحزاب المعارضة التركية، بهدف تحقيق مكاسب في الانتخابات منذ انتخابات عام 2018.
وزاد هذا الاستغلال مع تصاعد الخطاب العنصري تجاه السوريين، وترافق مع مجموعة من الظروف أبرزها التضخم، وارتفاع نسبة البطالة، ما مكّن المعارضة التركية من الحصول على مكاسب عبر استخدام هذه الورقة.
وتشكلت خلال سنوات إقامة السوريين بتركيا أحزاب سياسية تقوم مشاريعها على “طرد اللاجئين من تركيا” مثل حزب “النصر” المتطرف، الذي انخرط بانتخابات رئاسية، وأخرى بلدية تحت هذه الوعود.
ولم يقدم هذا الحزب أي حلول أو أطروحات خارج إطار ترحيل اللاجئين، وإصدار قوانين تضيّق على حياة الأجانب في البلاد.