تحركه الحاجة للقاء الأهل
“تهريب بشر” بإدارة مكاتب ومهربين بين إدلب ومناطق النظام
عنب بلدي – إدلب
بدموع الفرح، التقت “أم محمد” بولدها محمد الذي لم ترَه منذ 11 عامًا بسبب تهجيره القسري إلى مدينة إدلب، بعد أن وصلت إلى الشمال السوري في تموز الماضي، متجاوزة خطوط التماس بين مناطق سيطرة النظام والمعارضة.
تحملت السيدة مشقة السفر مدة أسبوع كامل بعد أن وصلت إلى إدلب قادمة من مدينة دمشق عن طريق “مهربين” يديرون عمليات التهريب، ودخلت عبر طرقات من ريف حلب.
وصلت السيدة (54 عامًا) إلى إدلب لرؤية ابنها محمد (35 عامًا)، والتعرف إلى زوجته وأطفاله والبقاء مدة من الزمن ثم العودة إلى منزلها وأسرتها في دمشق.
لم يكن الطريق سهلًا، إذ تعرضت لصعوبات في أثناء السفر، كالاضطرار للمشي لمسافات طويلة، وغياب أماكن جيدة للمبيت، والتعرض للسرقة.
قالت “أم محمد” لعنب بلدي، إن ابنها كان مطلوبًا لأجهزة الأمن في النظام السوري عام 2012، ما اضطره للانتقال إلى داريا في ريف دمشق، التي كانت بعيدة عن قبضة قوات النظام.
ومنذ أن تعرضت داريا لحصار انتهى بتهجير من فيها إلى إدلب عام 2016، تحمل الأم أمنيات بلقاء ابنها.
قالت السيدة، إن ابنها تزوج ورُزق بثلاثة أطفال بعد وصوله إلى إدلب، وكانت تتواصل معه عبر “مكالمات فيديو”، لكنها لم تكن كافية للاطمئنان و”إطفاء نار الشوق” في قلب والدته.
الكثير من المواطنين الذين يرغبون بالقدوم إلى إدلب لرؤية أقربائهم يجدون أنفسهم مجبرين على عبور طرق التهريب بسبب صعوبة المرور عبر حواجز قوات النظام، ما يضعهم تحت رحمة المهربين.
مكاتب مخصصة للسفر
ينتشر في مدينة إدلب العديد من المكاتب التي تعمل بنقل المسافرين من مناطق سيطرة النظام إلى إدلب والشمال ككل وبالعكس، وتخيّر العديد من المكاتب المسافرين بين القدوم بشكل نظامي أو عبر التهريب.
ويكمن الاختلاف بين طريق التهريب والطرق النظامية (طرق السفر المتفق عليها بين الجهات المسيطرة) في أن الأخيرة أقل تكلفة، إذ تبلغ تقريبًا 250 دولارًا أمريكيًا، ويجب على المسافر إرسال صورة عن الهوية قبل أسبوع للمكتب الذي ينسق أمور السفر.
ويستغرق السفر عبر الطرق النظامية مدة ثلاثة أيام تقريبًا، إذ تنطلق الرحلة من حلب يوم الثلاثاء من كل أسبوع، ويتوقف المسافرون على حواجز التفتيش المختلفة للجهات المسيطرة، ويصل المسافرون يوم الخميس ليلًا أو الجمعة صباحًا.
الطرق النظامية لا تعتبر خيارًا مناسبًا للشبان القادمين من مناطق سيطرة النظام المطلوبين للفروع الأمنية أو المتخلفين عن الخدمة الإلزامية، وهي أيضًا غير مناسبة لكبار السن الذين لا يستطيعون التحمل مشقة السفر لثلاثة أيام كاملة.
أما طرق التهريب فتستمر أطول رحلة عبرها مدة 36 ساعة (في حال تضمنت سيرًا أطول على الأقدام بين خطوط التماس)، وفي معظم الأحيان أقل من هذه المدة، وتتراوح تكلفتها بين 350 و500 دولار أمريكي، إلا أن بعض المسافرين يضطرون لرمي حقائبهم في أثناء المسير.
وتضمن هذه المكاتب للمسافرين القادمين عبرها سلامة الأمتعة في الطرق النظامية، بشرط أن تكون الأمتعة قليلة، أما في حال قدوم المسافر عبر طرق التهريب، فتبلّغ المكاتب المسافر بعدم حمل أمتعة ثقيلة وفي حال كان ذلك، فإنها لا تضمن سلامتها.
أما الأشياء الثمينة، فتضمن المكاتب سلامتها بشرط تسليمها للمكتب قبل السفر فقط.
تكاليف مرتفعة
“أبو حمزة” مهجر من حمص يقيم في إدلب (رفض التعريف باسمه الصريح لمسائل أمنية تتعلق بأمن عائلته) قال، إن والدته زارته عام 2023، وبلغت تكلفة وصولها وعودتها 850 دولارًا أمريكيًا، وإلى الآن لم يسدد الديون التي ترتبت عليه، لافتًا إلى أن فترة زيارتها استمرت ثلاثة أشهر.
وذكر “أبو حمزة” أن الخطة كانت تقضي بقدوم والدته عبر الطرق النظامية، وفعلًا تعاقد مع أحد المكاتب، لكن بعد وصول والدته إلى حلب أبلغه صاحب المكتب أن الطرق النظامية أُغلقت.
بعد ذلك، لم يبقَ أمام الرجل سوى عودة والدته من حيث أتت، أو القدوم عبر طرقات التهريب، لافتًا إلى أن أصحاب المكاتب يستغلون حاجة المواطنين لتحقيق أرباح طائلة.
ويعيش السكان في سوريا واقعًا اقتصاديًا مترديًا في عموم مناطق السيطرة، في حين يسكن شمال غربي سوريا 5.1 مليون شخص، منهم 4.2 مليون بحاجة إلى مساعدة، و3.4 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي، 3.4 مليون منهم نازحون داخليًا.
من أصل مجموع السكان، يعيش مليونان في المخيمات، وفق الأمم المتحدة، في حين تتحدث إحصائيات محلية عن وجود 5.5 إلى 6 ملايين شخص في الشمال.
وتتراوح الرواتب الحكومية في مناطق سيطرة حكومة “الإنقاذ” بإدلب بين 80 و110 دولارات، بينما لا تتجاوز أجرة العامل اليومية في الشمال السوري ثلاثة دولارات في أحسن الأحوال.
ويبلغ الحد الأدنى للرواتب الحكومية في مناطق سيطرة النظام السوري 279 ألف ليرة سورية (18.7 دولار).
مشقة واستغلال
يعاني المسافرون إلى الشمال السوري العديد من المشقات، تبدأ من أماكن تجميعهم للسفر وقطع مسافات طويلة غير آمنة سيرًا على الأقدام، ومخاوف التعرض للاعتقال في جميع المناطق التي يعبرونها باختلاف من يسيطر عليها، والاضطرار لركوب سيارات غير مخصصة لنقل الركاب، والتعرض لعمليات السرقة (التشليح).
اتفق “أبو محمد” مع “مهرب” على أن يوصل والده من إدلب إلى حلب ومنها إلى دمشق، عقب زيارته إلى الشمال السوري.
بعد وصول والد “أبو محمد” إلى حلب، اتصل به شخص واصطحبه إلى منزل للانتظار تحضيرًا للحظة الانطلاق، وكان من المقرر أن يبقى في المنزل لساعات قليلة لكنه بقي فيه ثلاثة أيام.
قال “أبو محمد”، إن المنزل لم يكن مجهزًا بأي وسائل للسكن، وبالكاد فيه مرحاض وبعض الإسفنجات لجلوس الناس عليها، وتنتشر فيه الأوساخ.
صادر المهرب هواتف المسافرين خوفًا من التعرض للمداهمة من قبل السلطات، أما وجبات الطعام فكانت قليلة وفاسدة.
وذكر الشاب أن والده يعاني من عدة أمراض تحتاج إلى أدوية في مواعيد معينة أخبر المهرب بها، ما كلّف الشاب مبالغ إضافية للعناية بوالده عناية خاصة، لكنه تفاجأ بعد وصول والده بعدم الاهتمام بحالته الصحية، ونُقل إلى المستشفى مباشرة بعد وصوله إلى دمشق.
وفي 23 من أيلول 2022، قُتلت امرأة وأُصيب مدنيان بانفجار لغم أرضي خلال محاولة العبور من خطوط التهريب بين مناطق نفوذ النظام و”الجيش الوطني” قرب قرية فيخة حمدان شرق بلدة بزاعة بريف حلب الشرقي.
ونقلت عنب بلدي عن مراسلها في المنطقة أن لغمًا أرضيًا انفجر بمجموعة مدنيين كانوا يحاولون العبور باتجاه مناطق شمالي حلب قادمين من مناطق نفوذ النظام عبر خطوط التهريب، ما أسفر عن إصابات.
ورغم مخاطر السفر تلك والتكاليف المرتفعة، فإن انعدام الخيارات أمام الأشخاص يجبرهم على تحمل كل تلك الصعوبات للقاء آبائهم وأبنائهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :