الصحافة مهنة شاقة لا يصلح لها الكثيرون

tag icon ع ع ع

علي عيد

في مهنة الصحافة، هناك مجالدون حقيقيون مجهولون، يمضون حياتهم وهم يطاردون المعلومة والتفاصيل، ويتعرضون للإنهاك النفسي والبدني، وقد لا تتاح فرصة لكي تمر أسماؤهم أمام نظر أو سمع الجمهور، كما أن هناك من يسارعون إلى الانسحاب عند أول مواجهة.

مفردة صحفي تعني كائنًا بشخصيتين، واحدة مشهورة يعرفها الناس وأخرى يعرفها هو ومحيطه المهني القريب، والأخيرة هي حقيقة الصحفي، وهي مكان الاشتباك اليومي والمعركة المستمرة لمهنة المتاعب.

صدمة القادمين إلى عالم الصحافة غالبًا ما يكون وراءها فهم خاطئ لطبيعة المهنة، أو طمع بغنائمها لا شغف بدورها وأهميتها.

في هذه المهنة، هناك صحفيون وهناك موظفون وهناك أيضًا منتفعون، ثمة صحفيون يعيشون في نعيم زملائهم، وآخرون يعيشون في جحيمهم.

أذكر في “ديسك” التحرير أننا كنا نتلقى من زميل ورقة بلا عنوان، وعليها بضع جمل فوضوية بلا معنى، ولا يعرف فيها الفاعل من المفعول به، مرفقة بها قصاصات من صحيفة أو دعوة علاقات عامة، يريد “الزميل” منها خبرًا يزين به اسمه، وكان ذلك الزميل قد بنى على مدار سنوات اسمه اللامع في عالم الصحافة، والحقيقة أنه لم يكن صحفيًا بل رجل علاقات عامة، يقبض ثمن ما يحرره له الزملاء من الصحيفة، وثمنًا آخر من المعارف من رجال مال وفنّ وسلطة، وثمنًا ثالثًا على الشاشات أو في المجالس، وكان شعورًا صعبًا لدى فريق الصياغة والتحرير الذين يعودون منهكين إلى أطفالهم بعد نهار طويل من شدّ الأعصاب والإرهاق والقلق، فلا يستطيعون حتى أداء دورهم كأمهات أو آباء كما يشتهون أو كما يجب.

كان الأمر طبيعيًا في كثير من وسائل الإعلام، وسيبقى كذلك، وسيتكرر المشهد بصور مختلفة، ويعرف هذا من يدركون كمّ التعب وراء الكلمة والمعلومة والخبر، ومن يدركون أن صاحبة الجلالة تدخلك إلى بلاطها مشترطة قدرتك على تحمل الضغط والعمل ضمن الفريق، ثم تبدأ مرحلة الفرز بين مقاتل و”قطّاف ورد شمام هوا”، ولا يلغي هذا حقيقة أن كثيرًا من الصحفيين يمتلكون المهارة والقدرة على حمل شرف كلمة “صحفي”، إذ يعملون بدأب على بناء قدراتهم ومهاراتهم، ويستحقون أن يعرفهم الناس، كما أن كثيرًا ممن لا تتاح لهم فرصة “قطف الورد” سيهربون من السباق عند أول “كوع”.

عندما تَفِدُ فتاة أو شاب إلى مؤسسة إعلامية في بداية حياتهم المهنية، غالبًا ما يصدمون من روايات زملائهم الكبار الذين أمضوا سنوات طويلة في كواليس المهنة، ويستغربون مقولة إن معظم الصحفيين فقراء، ويموتون مبكرًا بهمومهم أو بأمراض خطيرة مثل السرطان والسكتات القلبية والدماغية، والسبب هو التوتر المستمر، والسباق مع المعلومة، والخوف من المحاسبة، وما ينشأ عن ذلك من إرهاق بدني، وعادات سيئة مثل التدخين، أو النوم القليل والقلق من أن هناك ما سيفوتك إن أغمضت جفنيك.

لا يقف الخطأ في الصحافة عند زبون كما لو أنك صنعت قطعة ملابس بشكل سيئ، إذ يمكنك أن تتلقى عبارة قاسية ثم تنتهي المسألة باعتذار لطيف ورد المال للزبون، بل ستجد نفسك في الصحافة مسؤولًا أمام جمهور بالآلاف وربما بالملايين، يحاسب صحيفتك أو وسيلتك الإعلامية التي تحاسبك بدورها إن حصل خطأ ما.

إذا أردنا تجنب نماذج شاذة في العالم العربي، والحديث عن طبيعة ما يجري في إعلام مسؤول وملتزم، سنجد أن غرفة الأخبار في أكثر وسائل الإعلام مهنية هي من أصعب المهمات، وأن كثيرين يغادرونها مصابين بخيبات أمل، لأنهم كانوا يحلمون بمكاسب المهنة لا متاعبها، وهناك دراسات ومقالات كثيرة وموثوقة تدل على ذلك.

يقول ماثيو باورز (Matthew Powers)، أستاذ الاتصالات في جامعة “واشنطن”، إن الصحافة كمهنة تستند إلى الالتزامات الشخصية القوية والشعور بقيمة الذات للقيام بعمل مرتبط بالقيم الأوسع: شفاء الناس، ومكافحة الظلم، ونقل المعرفة، وخدمة قضية الديمقراطية.

في مقاله المنشور على منصة “The Conversation”، المتخصصة بإعلام النقاش العام بالصحافة القائمة على المعرفة المسؤولة والأخلاقية والمدعومة بالأدلة، يتحدث باورز عن حجم معاناة الصحفيين في الولايات المتحدة، فأجورهم أقل، ومسؤوليتهم في تزايد، ولكن رحيلهم يهدد المجتمع المدني بالخطر، ويجعل من الصعب على الناس اتخاذ قرارات مستنيرة، وهو أمر يرتبط بانخفاض المشاركة السياسية، كما يعني رقابة أقل على السلطة السياسية والاقتصادية.

يخطئ مستجدون من الشباب الوافدين إلى عالم الصحافة عندما يقررون أن هذه المهنة متعبة بسبب تجربتهم في مكان واحد، أو أنهم تعرضوا للضغط دون غيرهم، وأن هناك مكانًا أفضل يستحقهم، فالمسألة ليست كذلك، على اعتبار أن أهون مشاق الصحفي ومتاعبه هي الإجراءات الإدارية البحتة، وهي قوالب تطبق في جميع أنحاء العالم، وأن القاعدة العامة للعمل الصحفي هي أنك في معركة لكسب الثقة والتمكين والمسؤولية، وهي معركة مفتوحة على جميع الاتجاهات والاحتمالات.

المعركة الحقيقية والمجالدة أمر لا مفرّ منه، وبناء المسيرة المهنية ليس مجرد شهادة على ورق أو تدريبًا لبضعة أشهر، إنها إحساس بالمسؤولية، أو على أقل تقدير رغبة بتقديم شيء خارج “الأنا”، شيء يتطلب أن تجتمع في الشخص قدرات مع صبر مع مهارات ومرونة ورغبة مستمرة في التطور والاطلاع، قبل أو بموازاة الراتب الكريم أو تسطير الاسم بجانب قطعة صحفية.. وللحديث بقية.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.





×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة