صياح الديك.. أزمة العنصرية في تركيا

tag icon ع ع ع

غزوان قرنفل

صياح الديك في الصين هو نفسه في تركيا، وهو نفسه بالقطع في أي مكان على وجه هذه الأرض الضاجّة بالبشر المختصمين، والمتقاتلين والمستغلين، والعنصريين الكارهين لأنفسهم قبل كرههم لأقرانهم من البشر ممن فرضت عليهم ظروف بلدانهم أن يصيروا لاجئين في بلدان لم يخططوا مسبقًا أن يذهبوا إليها، فضلًا عن الإقامة فيها.

تصدمك كل يوم قرارات وإجراءات جديدة تفرضها دول وحكومات للتضييق على مساحات وصول اللاجئين ووجهاتهم بحثًا عن ملاذ يأمن فيه بشري على نفسه وأطفاله وماله وعرضه، اعتقادًا منه أنه إنسان يملك كامل الحقوق التي قرأها أو سمع عنها في شرعة حقوق الإنسان، لتصدمه حقائق الواقع أن معظم ذلك غالبًا لا يمكن توصيفه إلا بالهراء، وأن ليس لكل البشر حقوق متماثلة، لأنهم ليسوا سواسية.

صياح الديك في الصين، التي صار انتهاك حقوق الأقلية الإيغورية المسلمة جزءًا أصيلًا من سياسات حكومتها، هو نفسه صياح الديك في بريطانيا، العريقة في ديمقراطيتها، التي صدمتنا المشاهد المروعة للاعتداءات العنصرية على المواطنين واللاجئين المسلمين وممتلكاتهم فيها، وهو نفسه صياح الديك في تركيا التي وقعت فيها قبل شهر ونيّف أحداث مشابهة واعتداءات بدوافع عنصرية بحق اللاجئين السوريين، سبقتها إرهاصات كثيرة لم يلتفت إليها أحد بجدية، ولم يتخذ تجاهها ما يجب من إجراءات استباقية للحؤول دون وقوعها، وهو نفس صياح الديك الذي أيقظ سلوكًا عدوانيًا وعنصريًا فظًا عند بعض اللبنانيين والمصريين تجاه أقرانهم السوريين.

البشر هم البشر أينما كانوا، لكنهم لا يحصلون ولن يحصلوا قط على نفس المعادل الإنساني، رغم أن الديك يوقظ بصياحه الجميع لينهضوا إلى الحياة لكنها بالقطع ليست ذات الحياة.

صياح الديك يوقظنا ليس من غفوتنا فحسب، بل ومن أحلامنا أيضًا، ما يجبرنا على العودة لمقاربة واقعنا بوقائعه ومعطياته كما هو لا كما نحلم، وهو ما يعيدنا للقول إنه في زمن العولمة وانفتاح آفاق العالم أمام التواصل البشري لا يصح أن تغلق أبواب بيتك أمام حركة تواصل الناس مع بعضهم، والاطلاع على ما هو خارج أسوار حديقة منزلك، لأن ذلك يجعلك خارج سياق ما يجري من أحداث، وخارج ما يطرأ في كل لحظة من وقائع سيكون لها أثر مهما كان محدودًا على مجريات حياتك رغبت في ذلك أم لم ترغب.

وأزعم أن جزءًا مهمًا من أزمة المجتمع التركي المتعلقة بالعنصرية تتعلق بتلك المسألة، ذلك أنه حتى وقت ليس ببعيد، وربما في جزء منه حتى الآن أيضًا، لا يزال يعتقد أن الانغلاق داخل حدود جغرافيته ولغته وتاريخه الذي تم تلقينه إياه هو وحده الذي يحمي وحدته ووحدة جغرافيته، ربما في محاولة لتوكيد مقولة لا يزال الكثيرون يؤمنون بها، مؤداها أن ليس للتركي من نصير إلا قرينه التركي، وبطبيعة الحال يختلف عند هؤلاء كثيرًا عن أقرانهم من الأتراك أيضًا مفهوم من هو التركي، وهذا النمط من التفكير هو باعتقادي ما يؤدي إلى مزيد من الانغلاق الذي يفرز ويعزز تلك المواقف التي نسمعها ونقرأ عنها بين حين وآخر عن العنصرية تجاه الآخرين.

لكن هل ستصدم لو علمت أن تلك العنصرية لا تنصرف تجاه الآخرين فقط، بل إن ثمة عنصرية بينية داخل المجتمع التركي نفسه، يمارسها من يطلق عليهم أو يسمّون أنفسهم بـ”الأتراك البيض” تجاه مواطنيهم ممن يسمون بـ”الأتراك السود”، وهو ما عبّر عنه الرئيس أردوغان نفسه مخاطبًا جمهوره في غير مرة قائلًا: “في هذا البلد يوجد تمييز بين الأتراك البيض والأتراك السود، وأنا أنتمي إلى الأتراك السود”، واللون هنا بطبيعة الحال لا يرمز طبعًا لنفس الدلالة اللفظية بقدر ما يقصد به الإشارة إلى العنصرية البينية داخل المجتمع التركي الواحد.

تقول الأستاذة سيدا ديمير ألب، إن المجتمع التركي المعاصر منشطر منذ تأسيس الجمهورية عام 1923 إلى “أتراك بيض”، وهي تشير هنا إلى نخب حضرية متغربة التوجه وخاصة من سكان مدن السواحل الغربية لتركيا، ينظرون ويتعاملون بعجرفة واستعلاء واحتقار مع مواطنيهم من “الأتراك السود”، وخاصة من أولئك الذين يرتدون الحجاب ممن يسكنون مدن وقرى الأناضول الذين يشكلون غالبية الأتراك. هل تذكرون اللقطات الشهيرة لامرأة تركية وهي تعتدي على امرأة تركية أخرى وتحاول أن تنزع الحجاب عن رأسها وهي ترطن بالقول هذه الجمهورية التركية وليست العربية السعودية.

وفيما يعمل “البيض” من الأتراك لاستعادة سيطرتهم وتفردهم بالسلطة والثروة وحتى بالإعلام، يعمل الآخرون لتكون تركيا لعموم أبنائها، وهو مخاض عسير وطويل دونه الكثير من الجهد والسياسات التعليمية والثقافية والاقتصادية والقانونية التي يتعين على عموم نخب المجتمع التركي الاشتغال عليها حتى تبدأ مسيرة التعافي من مرض التوجس من الآخر ومن لوثة العنصرية، التي تشوه سمعة الأتراك وترتد عليهم بالكثير من الضرر.

تقول السيدة أصلي بايكال، وهي ابنة الزعيم الأسبق لحزب “الشعب الجمهوري” المعارض دينيز بايكال: “في عام واحد منحت أمريكا 875 ألف مقيم جنسيتها، وكذلك منحت إنجلترا 202 ألف مقيم جنسيتها أيضًا، وإني لأعجب من أولئك الذين ينتقدون تجنيس 228 ألف سوري خلال كل هذه الأعوام، إن هؤلاء لا يفهمون المنظومة العالمية، إن السعي للحصول على الجنسية التركية مدعاة لفخرنا وليس لتوجسنا”.

فهل ينعتق العنصريون الأتراك من هواجسهم وتخرصاتهم وتطرفهم وانغلاقهم ومتاجرتهم حتى بقوميتهم التركية في أسواق البورصات السياسية، ويعتقون المجتمع التركي من تلك الأوهام والأفكار ليتمكن من تنسم هواء خالٍ من الكراهية للآخر، وجسر الهوة بينه وبين المجتمعات المتحضرة التي يروم ليكون جزءًا منها؟ ربما نحتاج إلى صياح الديك مجددًا ليوقظنا.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة