tag icon ع ع ع

خالد الجرعتلي | علي درويش

لم يشكّل القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” نهاية مشكلات شمال شرقي سوريا، إذ ظهر لاحقًا أن الأطراف التي كانت تحاول دحر مقاتلي التنظيم من المنطقة كانت تتسابق لضم مساحات جغرافية أكبر، تشكّل خلالها مناطق نفوذ وسيطرة، ورغم بقاء خطوط السيطرة ثابتة نسبيًا لسنوات لاحقة، لم يغب عن المنطقة التوتر الأمني يومًا.

بسطت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بدعم أمريكي سيطرتها على شرق الفرات، في حين تمركز النظام السوري بدعم روسي- إيراني غربه، ورغم أن النظام حاول سابقًا إحداث قلاقل في مناطق النفوذ الأمريكي، لم يكن لتحركاته أثر ملموس، وسط استعداد أمريكا للرد على أي هجوم يستهدف مناطق نفوذها.

كان هجوم خشام، في شباط 2018، تمثيلًا فعليًا لما تريده واشنطن شرقي دير الزور، إذ هاجمت حينها مجموعات من ميليشيا “فاغنر” الروسية ومجموعات موالية لإيران قرية صغيرة تقع على مقربة من قاعدة أمريكية شرق نهر الفرات، لكن الطيران الحربي الأمريكي دمر القوات المهاجمة، وتمكن من قتل أكثر من 300 شخص، بينهم جنود روس، لم تعترف بهم موسكو لاحقًا، في حين لم يُصب أي جندي أمريكي.

السيناريو تكرر، في 7 من آب الحالي، مع هجوم شنه مقاتلون عشائريون، يُعتقد أنه جاء بدفع من طهران والنظام السوري، لكن الرد الأمريكي لم يتكرر، إذ لم يصدر عن الولايات المتحدة أي موقف معلن حتى لحظة إعداد هذا التقرير، وبقيت “قسد” تحاول الدفاع عن نقاطها العسكرية.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف الموقف الأمريكي المحتمل من التصعيد في دير الزور، والغايات من تركيز النظام وإيران على الضغط على واشنطن في سوريا، في وقت يترقب فيه العالم هجومًا إيرانيًا يقال إنه وشيك على إسرائيل، وتستعد الولايات المتحدة لتدعم دفاع إسرائيل في وجه أي تحرك إيراني، مستخدمة قواعدها في سوريا والعراق، وسط سياق ضاغط على شمال شرقي سوريا، يتمثل بالتقارب السوري- التركي الذي تعتبر “قسد” أبرز الخاسرين في حال اكتماله.

الشرق عائم في الفوضى

بعد انتهاء سيطرة تنظيم “الدولة” في شمال شرقي سوريا، عملت “قسد” على تأسيس مناطق سيطرة خاصة، بمؤسسات خدمية وأمنية واقتصادية، وأدارتها عن طريق مظلتها السياسية “الإدارة الذاتية”، ما دق ناقوس الخطر لدى الجارة أنقرة، التي اعتبرت أن “الإدارة” امتداد لحزب “العمال الكردستاني”، تركي المنشأ، والمدرج على لوائح الإرهاب لديها، إلى جانب رفض إقليمي يبدأ من دمشق ويمتد إلى بغداد وطهران لوجود كيان كردي في المنطقة.

ومنذ سنوات لم توقف تركيا قصفها مناطق سيطرة “قسد” شمال شرقي سوريا، خصوصًا في المناطق القريبة من حدودها، كالحسكة وريف الرقة، وإلى جانب هجمات متفرقة لتنظيم “الدولة الإسلامية”، نشأت حالة من عدم الاستقرار في المنطقة.

شهر آب من عام 2023 شكّل انعطافة جديدة في السياق نفسه، إذ قررت “قسد” إنهاء سيطرة “مجلس دير الزور العسكري” التابع لها على محافظة دير الزور، وهو فصيل محلي مكوّن بمعظمه من أبناء عشائر المحافظة العربية في المحافظة، واعتقلت قائد “المجلس” أحمد الخبيل (أبو خولة)، ما تسبب بانتفاضة قبلية في وجه “قسد” كبدتها خسائر حينها.

انتفضت عشائر من دير الزور في وجه “قسد” دعمًا لـ”المجلس العسكري” متسببة بمواجهات مسلحة امتدت لأكثر من شهر، خسرت فيها “قسد” السيطرة على قرة وبلدات عديدة في دير الزور، لكنها أعادت السيطرة عليها لاحقًا بعد أن استقدمت تعزيزات عسكرية وحظرت التجول في أكثر من منطقة لعدة أيام.

ولم ينتهِ التوتر في دير الزور مع حل “المجلس العسكري” وسيطرة “قسد”، إذ نشأت مجموعات ذات طبيعة قبلية صارت تُعرف باسم “قوات العشائر”، وواظبت على مهاجمة مواقع “قسد” العسكرية في دير الزور.

مقاتلة في "قسد" في احتفالية بذكرى السيطرة على الباغوز - 23 آذار 2024 (قوات سوريا الديمقراطية / قسد)

مقاتلة في “قسد” في احتفالية بذكرى السيطرة على الباغوز – 23 آذار 2024 (قوات سوريا الديمقراطية / قسد)

عام من الهجمات

منذ آب 2023، شهد ريف دير الزور الشرقي توترات عسكرية وأمنية بعد اعتقال “قسد” قائد “مجلس دير الزور العسكري” التابع لها، أحمد الخبيل، إذ اندلعت اشتباكات بين “مجلس دير الزور” مدعومًا بمقاتلين من العشائر العربية و”قسد” بمناطق جغرافية متفرقة، لكن المواجهات تركزت بشكل أساسي في ريف دير الزور الشرقي، ذات التماس المباشر مع مناطق سيطرة النظام السوري.

وبعد أيام على المواجهات، غاب اسم “مجلس دير الزور” بالكامل عن المواجهات المسلحة، وبقي طرفاها “قسد” ومقاتلين من أبناء عشائر المنطقة يقودهم إبراهيم الهفل.

إبراهيم الهفل، أحد شيوخ عشيرة “العكيدات”، وصار بعد اشتباكات آب 2023 قائد “قوات العشائر العربية”، ويتهم من قبل “قسد” بالتبعية للنظام السوري.

اليوم ومع مرور نحو عام على الانتفاضة القبلية، شنت المجموعات نفسها هجومًا واسعًا على نقاط “قسد” العسكرية، وأمّنت قوات النظام والميليشيات الإيرانية غطاء مدفعيًا للمجموعات المهاجمة.

في 6 من آب الحالي، شنت “قوات العشائر” هجومًا على نقاط تمركز “قسد” في قرى وبلدات ذيبان وأبو حمام غرانيج وشعيطات والكشكية، بالإضافة إلى نقاط عسكرية أخرى واقعة في ريف دير الزور الشرقي.

واتهمت “قسد” رئيس “جهاز المخابرات العامة” التابع للنظام، حسام لوقا، بالوقوف خلف الهجوم، وورد في تعميم لـ”الدفاع الوطني” في الحسكة اطلعت عليه عنب بلدي، أن قوات النظام و”الدفاع الوطني” و”قوات العشائر” هم من نفذوا الهجوم.

وأظهر تسجيل مصور لم تتمكن عنب بلدي من التحقق من صحته، مشاركة هاشم السطام الملقب بـ”أبو بسام”، قائد إحدى الميليشيات الممولة إيرانيًا في دير الزور تسمى “حركة أبناء الجزيرة والفرات”، في المعارك على جبهة ذيبان.

المجموعات المشاركة في هجوم دير الزور

بين “فبراير الأحمر” وهجوم العشائر

أين التحالف الدولي؟

الهجوم الأخير لم يكن مشابهًا للهجمات السابقة، إذ لا تزال المناوشات والقصف المتبادل مستمرًا، وأعلنت “قسد”، في 8 من آب الحالي، عن أن قوات النظام ارتكبت “مجزرة جديدة” في قريتي جديد بكارة والدحلة بعد قصفها بالقذائف الصاروخية والمدفعية، مشيرة إلى أن القصف خلّف 11 ضحية مدنية معظمهم من الأطفال والنساء.

وأضافت أن القصف على القريتين انطلق من قواعد قوات النظام في قرية البوليل على الضفة الغربية لنهر الفرات.

وحتى لحظة إعداد هذا الملف، لم تبدِ الولايات المتحدة التي تدعم “قسد” أي موقف من الأحداث الجارية في المنطقة، وتواصلت عنب بلدي مع القيادة المركزية الأمريكية (سينتكوم) للحصول على تعليق حول الموقف الأمريكية من الهجوم الأحدث، لكنها لم تتلقَّ ردًا.

وفي المواجهات التي نشبت في آب 2023 بين المقاتلين العشائريين و”قسد”، لم تتدخل واشنطن مباشرة، لكنها حاولت وقف المواجهات، والقيام بوساطات بين الطرفين للتوصل إلى حل، في حين أن “قسد” استقدمت من المنطقة ممثلين عن العشائر من الموالين لها، واعتبرت أن الشيخ إبراهيم الهفل، أبرز الوجوه المعارضة لـ”قسد” في حراك العشائر، “رأس الفتنة” ومدعوم من النظام السوري.

ومع مرور ثلاثة أيام على المواجهات في دير الزور التي شنها المقاتلون العشائريون تحت قيادة الهفل، دعا التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى التهدئة ووضع نهاية للاشتباكات، وقال التحالف عبر بيان، إن قوة المهام المشتركة في “عملية العزم الصلب” تراقب الأحداث في شمال شرقي سوريا عن كثب، بينما لا يزال تركيز العمل مع “قسد” لضمان محاربة التنظيم.

ولم يشارك التحالف الدولي الداعم لـ”قسد” فعليًا في القتال، واقتصر على تقديم دعم معنوي لـ”قسد”، على عكس تعامله مع تقدم قوات النظام ومرتزقة “فاغنر” الروسية في شباط 2018، حين تقدمت باتجاه معمل “كونيكو للغاز”، إذ دمر التحالف القوات المتقدمة، وقتل المئات من أفرادها.

“فبراير الأحمر”

في شباط 2018، تقدم رتل عسكري يضم عناصر من مرتزقة “فاغنر” الروسية إلى منطقة خشام بريف دير الزور الشرقي للسيطرة على معمل غاز “كونيكو”، أهم معامل الغاز في سوريا، ويضم قاعدة عسكرية أمريكية منذ عام 2017.

المعمل كان خاضعًا لسيطرة “قسد” والتحالف الدولي الذي أغارت طائراته على الرتل وأجهزت المدفعية عليه، ما تسبب بمقتل ما لا يقل عن 300 عنصر من القوات المتقدمة وجرح العشرات، إضافة إلى تدمير عشرات الآليات العسكرية.

صارت هذه الحادثة تُعرف في روسيا بـ”مذبحة فبراير الأحمر”، وكشفت لاحقًا أن الجيش الروسي لم يفِ بوعوده لقيادة “فاغنر” بتوفير الحماية الجوية لمقاتليها، سواء عبر الطائرات المقاتلة أم منظومات الدفاع الجوي على رأسها “S300” إن لزم الأمر.

لماذا لا يتدخل التحالف الآن؟

الباحث السويدي المتخصص بالشأن السوري في مركز “Century International” للأبحاث، آرون لوند، يرى أن هناك عاملين يمكن أن يمنعا القوات الأمريكية من العمل دفاعًا عن شركائها في “قسد”.

لوند قال لعنب بلدي، إن الولايات المتحدة تبدو حذرة من التورط في صراعات محلية بحتة، حيث لا تتعرض قواتها للتهديد، لكن ربما لم يكن الأمريكيون متأكدين من كيفية تصنيف هذا الصراع، أو ربما يكون هناك حد لضبط النفس هذا.

 

تبدو واشنطن حذرة من التورط في صراعات محلية بسوريا، لكن ربما لم تتدخل كونها لم تتمكن من تصنيف هذا الصراع بعد.

آرون لوند

باحث متخصص بالشأن السوري في مركز “Century International”

وأضاف أن العامل الثاني قد يكون مرتبطًا بعدم قدرة القوات الأمريكية على الرد بسرعة وفعالية في الوقت الحالي، خصوصًا أنها تتخذ الاحتياطات اللازمة فيما يتعلق بالأزمة التي تلوح في الأفق بين حليفتها المقربة (إسرائيل) وإيران.

من جانبه، قال مدير مركز “رامان للبحوث والاستشارات”، بدر ملا رشيد، لعنب بلدي، إن هناك محددات عدة لاختلاف كيفية رد التحالف الدولي في 2018، وحاليًا، في كيفية الرد على الهجمات التي تنظمها إيران والنظام السوري.

المحدد الأول يتمثل فيما كانت تشكّله القوة المهاجمة آنذاك (هجوم فاغنر)، وهي روسية شبه رسمية، وفي حال سيطرتها كانت ستتمكن من تثبيت الواقع، خاصة أن تنظيم “الدولة” لم يكن قد انتهى بعد.

تمتع هذه القوات بغطاء جوي من روسيا كان سيغير قواعد وقف التصادم فوق سوريا، وستبقى حينها فقط المناطق السكانية تحت سيطرة التحالف.

 

تستخدم إيران والنظام غطاء العشائر لممارسة الضغط عبر هجمات متفرقة، تختلف بالزخم، لكنها تتفق بأنها لن تتمكن من إحداث سيطرة حقيقية خصوصًا أن لا جهة رسمية تتبناها، ولن تتمكن من السيطرة الفعلية إلا في حال رغبة لدى التحالف بالانسحاب من سوريا.

بدر ملا رشيد

مدير مركز “رامان للبحوث والاستشارات”

وأوضح الباحث المساعد في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أسامة الشيخ علي، أن الوضع حاليًا يختلف، فالعشائر هم أبناء المنطقة وهناك أبعاد اجتماعية لا يمكن تجاهلها، والتحالف لا يمكنه التعامل مع قوات العشائر كما تعامل مع “فاغنر”، لأن قصف التحالف لقوات العشائر كما قصف “فاغنر” ستنجم عنه توترات اجتماعية كثيرة.

وما يهم التحالف حاليًا هو “دعم حالة الاستقرار في المنطقة حاليًا، ولا يريد أن تنفجر الأوضاع مرة ثانية”، ففي حال التعامل بشكل عنيف مع هذه القوات سيفتقد “الاستقرار الهش” في المنطقة.

متى قد يتدخل التحالف

في الهجوم الأحدث، سيطر المهاجمون على نقاط “قسد” في بلدات وقرى ذيبان وأبو حمام وغرانيج وشعيطات والكشكية، ونشروا تسجيلات مصورة لسيطرتهم على البلدات، رغم أن بعض هذه التسجيلات لا تزال غير مؤكدة أو مشكوكًا بصحتها.

وهذا التقدم أكبر من الهجمات السابقة التي اقتصرت على بعض المناوشات وحتى أكبر من هجوم آب 2023.

و”يبدو أن التحالف سمح” هذه المرة بتمدد المهاجمين لمسافة أكبر مما سبق، حيث كان يجري إيقافهم عبر النهر، بحسب الباحث بدر ملا رشيد، وفي حال غياب رغبة أمريكا بالانسحاب، فسيكون الهدف منه إحداث أكبر ضرر بشري بالقوات المهاجمة هذه المرة.

والتحالف أوضح موقفه من الهجوم بأنه داعم لـ”قسد” إلى جانب الحفاظ على الاستقرار، وسمح لـ”قسد” أن تستخدم “القوة إلى حد معين” خلال المواجهات السابقة، بحسب الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أسامة الشيخ علي، خاصة عندما كانت هجمات أبناء العشائر في بدايتها، أي في آب 2023، فرغم أن الاشتباكات اشتعلت كانتفاضة محلية، وصلت قوات من مناطق سيطرة النظام بدعم من الميليشيات الإيرانية، ومن أشخاص معروفين بعلاقاتهم مع ميليشيات إيرانية ودعم طهران لهم، وبالتالي “قسد” استخدمت القوة المتاحة عندها تحت هذه المعطيات.

وتكرر السيناريو خلال الهجوم الحالي، إذ سمح التحالف لـ”قسد” أن تستخدم المدفعية في قصف مناطق انتشار هذه القوات، في الطرف الآخر من نهر الفرات.

ويرى الباحث أسامة شيخ علي أن التحالف لن يتدخل ويقصف القوات المهاجمة، لكن إذا ساءت الأوضاع وحدث استهداف مباشر لقوات التحالف أو القواعد الأمريكية في المنطقة، من الممكن أن يقصف التحالف نقاط تجمع القوات المهاجمة.

“قسد” تمتص الهجمات

السيطرة السريعة لقوات العشائر والنظام، قابلها انسحاب “قسد” من هذه النقاط، وهو ما يبدو أنه ضعف في قوة “قسد” وسيطرتها على المنطقة، لكن الباحث في الشأن العسكري بمركز “جسور للدراسات” رشيد حوراني، اعتبر أن تقهقر القوات قد يكون تكتيكًا عسكريًا.

وقال حوراني، لعنب بلدي، إن السبب الرئيس لانسحاب “قسد” المباشر يمكن إرجاعه إلى “غياب التجانس في صفوف مقاتليها”، فهم مقاتلون “غير معبئين لتحقيق أهداف محددة” (لا يحملون العقيدة القتالية للمشاركة في معارك دير الزور)، مقابل مقاتلي العشائر المعبئين بممارسات “قسد” الإقصائية لمناطقهم، خصوصًا أن “قسد” لم تنفذ وعودها بالتغيير والإصلاح التي أطلقتها منذ عام، بعد اعتقال قائد “مجلس دير الزور العسكري”، أحمد الخبيل، وهو ما زاد من تعبئة مقاتلي العشائر.

 

معرفة مقاتلي العشائر بمسرح العمليات القتالية من حيث الجغرافيا، لعبت دورًا في تقدمهم، بينما أسلوب “قسد” بالانسحاب ثم التعبئة والهجوم هو تكتيك يهدف لتجنب الخسائر البشرية في صفوفها كي لا تثير غضب حاضنتها العربية في أغلبها. 

رشيد حوراني

باحث في مركز “جسور”

وقد يكون الأسلوب المتبع متعمدًا من قبل “قسد” لتنبيه التحالف الدولي ودفعه للتدخل عسكريًا بقوة إلى جانبها لمنع سيطرة إيران وميليشياتها على المنطقة.

من جانبه، قال الباحث أسامة الشيخ علي، إن قوة “قسد” العسكرية لا تقارن بقوة العشائر، مشيرًا إلى أن أسلوبها في الانسحاب ثم الهجوم بعد استقدام تعزيزات واسترداد النقاط هو سياسة قتالية متبعة خلال الفترة الحالية.

 

إعادة تفعيل “مجلس دير الزور”

هجمات العشائر على مواقع “قسد” بدأت بعد اعتقالها قائد “مجلس دير الزور العسكري”، أحمد الخبيل (أبو خولة)، في 27 من آب 2023، واستمرار غياب إعادة هيكلة “المجلس” قد يكون منبهًا للتحالف للقيام بذلك.

وشكّلت خسارة “مجلس دير الزور العسكري” سببًا في تفجر الوضع، ورغم أنه ليس العامل الوحيد، فإن الأحداث الأخيرة يجب أن تكون منبهة للتحالف الدولي ليعيد تشكيل “المجلس”، بحسب الباحث رشيد حوراني.

وأضاف الباحث أن استثمار الكوادر المنتمية لـ”المجلس” في المنطقة، ومن ثم استقطاب أبناء المنطقة للعمل في صفوفه، قد يكون حلًا، نظرًا إلى عزوف أبناء دير الزور عن الالتحاق في صفوف “قسد”، وبالتالي من الممكن أن يكون هذا “المجلس” مستقبلًا وسيلة لفرض الأمر الواقع، قياسًا على ما حدث مع “أبو خولة”.

من جانبه، يرى الباحث أسامة شيخ علي أن عدم وجود “مجلس دير الزور” ليس السبب الوحيد في تراجع الوضع الأمني بالمنطقة، مشيرًا إلى أن “قسد” لم تلبِ مطالب الأهالي، كما أنها لم تغير ثقافة التعامل الأمني مع السكان، ولم تحسن الواقع الخدمي، وما زالت كوادر حزب “العمال الكردستاني” تتدخل في عمل المؤسسات.

تحاول “قسد” إبراز اسم “المجلس” على أنه حاضر في أحداث دير الزور، وبعد ساعات من الاشتباكات الحالية قالت “قسد”، إن قوات “المجلس” شاركت في صد الهجوم، لكن الفصيل ما زال منذ اعتقال “أبو خولة” مقوّض النفوذ، وفق شيخ علي.

وسعت “قسد” خلال مفاوضات إعادة هيكلة الفصيل إلى الحفاظ على الفصيل دون نفوذ حقيقي على الأرض، وفق معلومات حصلت عليها عنب بلدي من قادة سابقين في “مجلس دير الزور” ممن حضروا اجتماعات مع قادة “قسد”.

وحاولت قيادة “قسد” في المفاوضات فرض إملاءات على قادة “المجلس” السابقين الحاضرين لاجتماع إعادة تشكيله، وتركوا لهم حرية التصرف والاختيار.

مقاتلون من "قسد" في احتفالية بذكرى السيطرة على الباغوز - 23 آذار 2024 (قوات سوريا الديمقراطية / قسد)

مقاتلون من “قسد” في احتفالية بذكرى السيطرة على الباغوز – 23 آذار 2024 (قوات سوريا الديمقراطية / قسد)

عوامل إقليمية

جاء هجوم مقاتلي العشائر بعد خطوات أقدمت عليها “قسد” بإطلاق سراح أفراد من العشائر المعتقلين بتهمة الانتماء لتنظيم “الدولة” والمشاركة في عملياته، ومحاولاتها لتنظيم انتخابات محلية.

وهذه رسائل من “قسد” للبيئة المحلية بأنها “ستكون مرنة، ولو في حالة صورية، أكثر مما سبق من تعيين المسؤولين من طرفها بشكل مباشر”، بحسب الباحث بدر ملا رشيد.

لكن يبدو أن المتغيرات الإقليمية أكثر تأثيرًا في توقيت الهجمات، فقد اندلعت بالتزامن مع متغيرين جذريين في سياق الأحداث على الخارطة السورية، الأول هو مسار التقارب بين أنقرة والنظام السوري، والثاني هو التصعيد الإسرائيلي- الإيراني، إذ لا تزال إيران تتوعد بقصف إسرائيل للمرة الثانية، وهو ما أكدت واشنطن وشوك حدوثه مرارًا.

الباحث السويدي المتخصص بالشأن السوري آرون لوند، يعتقد أن هذا النوع من الهجمات هو أبعد من استهداف عسكري لمواقع تتمركز فيها “قسد” شرقي سوريا، إذ قال لعنب بلدي، إن من المحتمل أن تكون هذه الهجمات مصممة، كليًا أو جزئيًا، للضغط على القوات الأمريكية وتشتيتها مع اقتراب الصراع مع إيران.

وفي الوقت نفسه، لم يستبعد أن يكون الهجوم على العكس من ذلك أيضًا، حيث يتم شن هذه الهجمات بشكل “انتهازي” بينما تحتمي القوات الأمريكية في قواعدها خوفًا من الضربات الإيرانية، مع قدرة ضئيلة على التدخل لدعم “قسد”.

 

قد تكون الميليشيات الإيرانية وقوات النظام انتهزت الوضعية الدفاعية التي اتخذتها الولايات المتحدة في قواعدها بسوريا، خوفًا من الهجمات المتكررة عليها، وهاجمت مواقع “قسد”.

آرون لوند

باحث في مركز “Century International”

ويرى مدير مركز “جيواستراتيجي” للدراسات، إبراهيم كابان، أن التطورات الحاصلة في سوريا وبمنطقة الشرق الأوسط لها علاقة في كل التحركات الجارية، خصوصًا في دير الزور.

كابان قال لعنب بلدي، إن التحركات الإيرانية في سوريا ضد “قسد” مرتبطة بمحاولات طهران لخلق مواجهات مع القوات الأمريكية أيضًا، وقد تكون عملية ضغط على واشنطن بالدرجة الأولى.

وأضاف أن التنسيق المباشر بين مجموعات إبراهيم الهفل و”لواء الباقر” بقيادة نواف البشير، إضافة إلى مجموعات قبلية أخرى تدعمها إيران والمخابرات السورية، يهدف أيضًا لزعزعة الأمن في ريف دير الزور، خصوصًا أن هذه المجموعات تنظر إلى “قسد” بطبيعة الحال على أنها مجموعات معادية.

مقاتلون من "قسد" في احتفالية بذكرى السيطرة على الباغوز - 23 آذار 2024 (قوات سوريا الديمقراطية / قسد)

مقاتلون من “قسد” في احتفالية بذكرى السيطرة على الباغوز – 23 آذار 2024 (قوات سوريا الديمقراطية / قسد)

تقارب تركيا والنظام

يعتقد الباحث المساعد في مركز “عمران” ، أن مشروع “الإدارة الذاتية” وقع اليوم في موقف محرج وصعب ومأزق حقيقي بسبب مسار التقارب بين النظام وتركيا، وهو ما سيترك آثارًا سلبية على “قسد” في المستقبل إن تم.

وأضاف لعنب بلدي أن التقارب التركي مع النظام كان دائمًا يهدف من جانب أنقرة لمحاربة “الإرهاب” بشكل مشترك مع النظام، وهو ما يقصد به “قسد”.

ووفق الباحث، كان الحديث يتكرر عن أن النظام لا يملك القوة ولا الجرأة على محاربة “قسد” في ظل الدعم الأمريكي لها، لكن لديه القدرة والإمكانية على زعزعة الاستقرار في مناطق سيطرة “قسد” شرق الفرات، إذ يملك ولاء بعض العشائر، ويمكنه أن يحركها بسهولة.

من جانبه، يرى الباحث إبراهيم كابان أن تقدم الاتفاقيات بين النظام السوري وتركيا قد يكون عاملًا بزيادة التصعيد في المنطقة، خصوصًا مع المعرفة مسبقًا أن هدف أنقرة من هذا التقارب هو محاربة “قسد”.

كابان قال لعنب بلدي، إن هناك رهانًا رباعيًا مباشرًا بين إيران وتركيا وروسيا والنظام السوري حول مسألة محاربة “قسد”، وبالتالي يمكن اعتبار أن الهجمات الأحدث هذه كانت منسّقة بين هذه الأطراف، ولكل منها مصلحته من الهجوم.

 

هناك تنسيق مباشر بين إيران وروسيا وتركيا والنظام السوري، ويمكن اعتبار الهجمات الأحدث في دير الزور هي نتيجة لهذا التنسيق، لكن لكل منها هدفه الخاص منها.

ابراهيم كابان

مدير مركز “جيواستراتيجي للدراسات”

توجه إيراني

في أيار الماضي، تحدث السكرتير الصحفي لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، بات رايدر، عن أن الطريقة التي تدير فيها إيران أعمالها هي تدريب المجموعات الوكيلة والتأثير عليها في إطار سياستها الخارجية الهادفة لطرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، في إطار حديثه عن نشاط طهران شرقي سوريا.

وأضاف أن الهدف من إزاحة واشنطن من المنطقة هو إتاحة المجال لتنفيذ ما ترغب به إيران “دون رادع”، وأن مساعيها هذه هي مسار تواصل الولايات المتحدة مراقبته.

حديث رايدر جاء إجابة عن سؤال طرحه صحفي خلال مؤتمر حول سعي إيران لتوسيع نفوذها، من خلال الاستعانة بالعشائر المحلية، لتأسيس بعض الجماعات الوكيلة لها.

وأضاف السكرتير الصحفي لـ”البنتاجون” أن من المهم، من وجهة نظر الولايات المتحدة، عندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، أن تحترم سيادة البلدان التي تعمل معها، على عكس بعض هذه المجموعات الوكيلة (الميليشيات الموالية لإيران)، التي دمجت نفسها في هذه الدول.

وعندما يتعلق الأمر بالمساحات المكشوفة مثل سوريا، ستواصل واشنطن التركيز على مهمة هزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية” وفق رايدر، لكنها ستحافظ أيضًا على الوعي بالتهديدات الإقليمية الأوسع نطاقًا، لمنع المواقف المستقبلية المحتملة التي قد تؤدي إلى تهديد الأفراد الأمريكيين أو حلفائهم في المنطقة.

المحلل السياسي المتخصص بالشأن الإيراني مروان فرزات، قال لعنب بلدي، إن الهجمات المدعومة إيرانيًا في دير الزور حملت رسالة إلى واشنطن مفادها أنها قادرة على العبث بأي لحظة في مناطق النفوذ الأمريكي، وقادرة على إشعال المنطقة وتغير قواعد اللعبة فيها.

وأضاف أن لدير الزور أهمية كبيرة في المشروع الإيراني، فهي نقطة الاتصال البري الوحيدة التي تربط طهران ببيروت مرورًا ببغداد ودمشق، وقد تسعى طهران لتوسيع هذا الممر، وتأمين عمق استراتيجي له من الشمال والجنوب، لأن إمكانية خسارة هذا الممر لو نشبت حرب ضدها في المنطقة واردة جدًا.

واعتبر أن أثر هذه الهجمات قد لا يكون ظاهرًا في دير الزور اليوم، لكنه سينعكس بمناطق وملفات أخرى، فالرسالة الإيرانية وصلت للأمريكيين، وواشنطن اليوم بحاجة لتجنب التصعيد مع محاولات الإدارة الأمريكية تجنب حرب كبرى تهدد المنطقة.

مقالات متعلقة