خالد الجرعتلي | يامن المغربي | علي درويش
بعد عام 2011، رأى السوريون أول دبابة عسكرية كانت تتجه عكس المسار الذي لطالما توقعوه، نحو الداخل السوري بدل الحدود الجنوبية المحتلة من قبل إسرائيل، وكانت دوافع هذا التحرك قمع الحراك المناهض للنظام السوري الذي عجز عن تهدئة الأوضاع بالتهديد والوعيد في درعا السورية التي تقع على مقربة من الجولان المحتل.
مضى أكثر من 50 عامًا على سيطرة إسرائيل على الجولان عام 1967، وكان السوريون ينظرون إلى الجولان على أنه أرض محتلة ينبغي تحريرها، ويذهب بعضهم أبعد من ذلك، ويطالبون بتحرير كامل فلسطين.
اليوم وبعد 13 عامًا من انخراط الجيش السوري في قمع الثورة على امتداد الجغرافيا السورية، أيقظ صاروخ يُعتقد أن مصدره “حزب الله” اللبناني، وهو حليف النظام في قمع حراك السوريين، نحو الجولان السوري المحتل، أسفر عن مقتل 12 مدنيًا، جدلًا وتساؤلات كثيرة، فيما إذا كان الضحايا المدنيون سوريين أم إسرائيليين، من حيث الجنسية، فكل ما عُرف عن الجولان خلال العقود الماضية أنه أرض سورية، نزح بعض سكانها نحو الداخل السوري، وبقي قسم آخر منهم في الأراضي المحتلة.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف مع خبراء وباحثين، التركيبة الاجتماعية في الجولان المحتل، وتحول المنطقة الجغرافية إلى ملف مفاوضات عابر للزمن، يبحث فيه النظام السوري عن مكاسب على صعيد المنطقة والإقليم.
أرض سورية تلتهمها المستوطنات
الجولان المحتل حاله كحال بقية الأراضي التي احتلتها إسرائيل في نكبة 1948، ونكسة حزيران 1967، هجر معظم سكانه وسيطرت قوات الاحتلال على أملاكهم، وبنت على أنقاض قرى ومزارع المهجرين مستوطنات لإسكان المستوطنين الإسرائيليين، ومحاصرة ما تبقى من السوريين في قراهم والتضييق عليهم بمختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وكان للجولان أهمية سياسية واقتصادية بالنسبة لإسرائيل قبل احتلاله عام 1967، وبعد احتلاله تضاعفت أهميته، واتخذ “الكنيست” قرارًا بضمه إلى الإدارة الإسرائيلية في كانون الأول 1981.
جغرافيا الجولان
يقع الجولان أقصى جنوب غربي سوريا على امتداد الحدود مع فلسطين، ويأخذ شكلًا طوليًا، من الشمال إلى الجنوب على امتداد 75 كيلومترًا وبعرض يتراوح بين 18 و27 كيلو مترًا، وتقدّر مساحته بـ1860 كيلومترًا مربعًا.
ويتميز بتفاوت ارتفاعه عن سطح البحر، في الشمال تجاور تلاله جبل الشيخ بارتفاع يتجاوز ألفي متر، ثم ينخفض ليصل في قرية مجدل شمس إلى 1200 متر ويصل في جنوبه إلى نحو 125 مترًا.
ويعتبر الجولان من أغنى المناطق السورية بالمياه الجوفية، التي كانت تمثل 14% من مخزون سوريا المائي قبل العام 1967، بحسب موقع وزارة الخارجية السورية.
وتقدّر مساحة المنطقة التي احتلتها إسرائيل عام 1967 بنحو 1250 كيلومترًا مربعًا، جرى استعادة 100 كيلومتر مربع فقط خلال “حرب تشرين” عام 1973، ما يعني أن مساحة المنطقة المحتلة حاليًا 1150 كيلو مترًا مربعًا.
ووفق إحصاء عام 1966، كان عدد سكان الجولان 153 ألف نسمة، وعدد سكان المنطقة التي احتلتها إسرائيل 138 ألف نسمة، نزح منهم 131 ألف نسمة بعد حرب عام 1967 وبقي 7000، ويقدّر عدد أبناء الجولان النازحين حاليًا بـ600 ألف نسمة.
بالنسبة للتقسيمات الإدارية، كانت هناك مدينتان أساسيتان هما القنيطرة وفيق، إلى جانب 164 قرية و146 مزرعة، في حين يوجد حاليًا 137 قرية تحت الاحتلال و112 مزرعة.
بقي سكان خمس قرى تحت الاحتلال هي: مجدل شمس أكبرها، وبقعاثا وعين قنية والغجر وسحيتا بالإضافة إلى مسعدة التي كانت حينها مزرعة، كما بنت إسرائيل 45 مستوطنة في المنطقة نفسها.
وذكر الكاتب المتخصص بشؤون الجولان المحتل محمد زعل السلوم، لعنب بلدي، أن مسعدة كانت مزرعة تابعة لمجدل شمس، لكن بعد نزوح أهالي قرية سحيتا إليها توسعت وأصبحت قرية.
تمركز سوري في الشمال
يتركز وجود أهالي الجولان في المناطق الشمالية منه، القريبة من جبل الشيخ، في حين يتركز انتشار المستوطنات الإسرائيلية في المناطق الجنوبية، لكن إسرائيل تستمر في التضييق على السكان الأصليين ببناء مستوطنات ونقاط عسكرية بالقرب أو حوالي القرى الأربع التي حافظ سكانها على أراضيهم.
كما تضيق عليهم عبر المشاريع الاقتصادية، آخرها مشروع مراوح توليد الكهرباء، الذي يقام على مساحة كلية تعادل 3674 دونمًا، على الأراضي الخاصة بالسكان السوريين في بلدات مجدل شمس، ومسعدة، وبقعاثا، ويبعد كيلومترًا ونصفًا عن بلدة عين قنية.
الكاتب محمد زعل السلوم، وهو من أبناء الجولان المهجرين وله مؤلفات عنه، قال لعنب بلدي، إن قرى مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنية يقطنها سوريون من أبناء الطائفة الدرزية، في حين أن قرية الغجر سكانها من الطائفة الشيعية وحصل معظمهم على الجنسية الإسرائيلية، ومنخرطون في الجيش والشرطة الإسرائيلية على عكس بقية القرى، الذين رفض معظمهم بشكل متواصل الجنسية الإسرائيلية منذ أن عرضت عليهم في الثمانينيات.
السلوم أضاف أن الجولان كان يقطنه عرب سنة وشركس وتركمان وعلويون، لكن لم يبقَ أحد منهم بعد احتلال المنطقة.
ويبلغ حاليًا عدد الدروز في القرى الأربع حوالي 20 ألف نسمة، من بينهم 12 ألفًا يقيمون في مجدل شمس، والبقية يتوزعون في القرى الثلاث الأخرى، بينما يسكن في الجولان حوالي 50 ألف مستوطن يهودي، بحسب ما نقلته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” عن مكتب الإحصاء الإسرائيلي.
في القرى الأربع حصل حوالي 25% من السكان على الجنسية الإسرائيلية، ورغم ذلك لم يشارك في قرية مجدل شمس بانتخاب أعضاء “الكنيست” عام 2022 سوى 169 شخصًا من أصل 962 يحق لهم التصويت، فيما يبلغ عدد الحاصلين على الجنسية في القرية 2068 شخصًا.
عدد الحاصلين على الجنسية الإسرائيلية من القرى الأربع حتى منتصف 2022، بلغ 4303 أشخاص، لكن تقارير إسرائيلة تتحدث عن زيادة إقبال أبناء القرى بالتقديم للحصول على الجنسية الإسرائيلية.
السوريون الرافضون للجنسية الإسرائيلية يحملون بطاقات “إقامة مؤقتة” مع حفاظهم على الجنسية السورية، وهم أمام حلين، أن يبقوا كذلك أو يجبروا على الحصول على الجنسية الإسرائيلية، ما يعني أن أبناءهم سيخدمون في الجيش الإسرائيلي.
كما يواجه أبناء الجولان صعوبات في الحصول على المنح الدراسية بالجامعات الغربية.
وخاض دروز الجولان معارك ضد إسرائيل على مختلف الصعد، فعلى الصعيد السياسي، رفضوا التجنيس للحفاظ على هويتهم، وعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، صمدوا أمام سياسات إسرائيل في حرمانهم من الوصول لموارد المياه، وعدم توفير التنمية اللازمة للمنطقة والبنى التحتية، بالإضافة إلى استغلال سلطات الاحتلال لبيئة الجولان لتنفيذ مشاريع اقتصادية، كمشروع المراوح.
اقتصاد وسياسة
“تجعل إسرائيل من الجولان حديقة بيئية مفتوحة للسياح والمستوطنين”، وفق الكاتب محمد زعل السلوم، ولكن بالمقابل خربت بيئة الجولان، عبر تدمير جزء من مكوناتها البيئية الأساسية وإضافة عناصر جديدة، إذ كانت إسرائيل تستثمر في الجولان بما يعادل ثلاثة مليارات دولار قبل عملية “طوفان الأقصى” في تشرين الأول 2023.
النقطة الأهم بالنسبة لإسرائيل في الجولان هي قضية المياه، فإسرائيل قبل احتلال الجولان كانت تنفذ مشاريع لجر مياه نهر الأردن من منابع وروافد مغذية له في الأراضي السورية قبل احتلالها، وهي سفوح جبل الشيخ ونبع اللدان ونبع بانياس، وتصب في بحيرة “طبريا”، ليستكمل بعدها نهر الأردن جريانه باتجاه الجنوب.
محمد زعل السلوم قال خلال حديثه لعنب بلدي، إن الجولان كان في الخمسينيات يؤمّن 80% من احتياجات المواشي والحليب ومشتقاته لدمشق، و50% من احتياجات حوران.
تستثمر إسرائيل حاليًا هذه المياه، بعد الاستحواذ عليها بشكل كامل، وأقامت العديد من مساقط وخزانات المياه كخزان “باب الهوى”، وتجر هذه المياه باتجاه الأراضي المحتلة، وتخدّم فيها المستوطنات.
محمد زعل السلوم
كاتب متخصص بشؤون الجولان المحتل
وعلى الجانب السياحي، إضافة إلى تنوع المناظر الطبيعية في الجولان من جبال وتلال وسهول وشلالات، تستفيد إسرائيل من مناطق ذات طبيعة دينية مهمة للمسيحيين في المنطقة المحتلة، منها بيت صيدا وقلعة صبيبة بانياس وقلعة الكرسي حيث جلس السيد المسيح، ومعبد بان في قرية بانياس، التي اهتم بها المسيح وزارها وسلم فيها رسوله بطرس مقاليد السلطة في الكنيسة، بحسب الروايات المسيحية التي نقلها الكاتب.
وأيضًا للجولان أهمية من الناحية العسكرية والأمنية، بحسب الكاتب زعل السلوم، فالجولان يبعد عن دمشق 65 كيلومترًا، وهو نقطة متقدمة لإسرائيل، وتسيطر على تلاله ومرتفعاته، ويشكل حاجزًا طبيعيًا بين فلسطين التاريخية وسوريا.
أمريكيًا.. الجولان إسرائيلي
في 29 من تموز الماضي، قالت وزارة الخارجية الأمريكية، إن الجولان السوري المحتل مهم لأمن إسرائيل طالما النظام السوري يحكم سوريا، وطالما تنتشر الميليشيات الإيرانية على الجغرافيا السورية.
وخلال إحاطة صحفية، قال نائب المتحدث الرسمي الرئيسي للوزارة، فيدانت باتيل، إن الجولان مهم للغاية وحيوي لأمن إسرائيل، طالما ظل “نظام الأسد” بالسلطة في سوريا، وطالما استمرت إيران ووكلاؤها في الوجود في سوريا.
باتيل اعتبر خلال إجابته عن أسئلة الصحفيين، أنه طالما شكّل النظام السوري “تهديدًا أمنيًا كبيرًا” لإسرائيل، فإن السيطرة على الجولان من الناحية العملية تظل ذات أهمية حقيقية بالنسبة لتل أبيب.
وأشار إلى أن السياسة الأمريكية فيما يتعلق بهضبة الجولان السورية لم تتغير، وذلك منذ إعلان الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الاعتراف بالجولان أرضًا إسرائيلية، وهو ما لم يلقَ استجابة أممية.
حديث الخارجية الأمريكية جاء تزامنًا مع مؤتمر صحفي قال فيه مستشار البيت الأبيض لشؤون الأمن القومي، جون كيربي، إن واشنطن مستمرة في الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان.
وأضاف أن إعلان الولايات المتحدة عام 2019 لم يتغير، واقتبس منه، “إن الأعمال العدوانية التي تقوم بها إيران والجماعات الإرهابية، بما في ذلك (حزب الله)، جنوبي سوريا، تستمر في جعل مرتفعات الجولان نقطة انطلاق محتملة لشن هجمات على إسرائيل”.
مسار تفاوض لـنصف قرن
في 5 من حزيران 1967، اندلعت حرب بين سوريا ومصر من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، هاجمت الأخيرة فيها المطارات السورية والمصرية، ودخلت قواتها الضفة الغربية والقدس في فلسطين والجولان السوري وسيناء المصرية، وسط عجز من قوات الدول العربية العسكرية، وخلال أسبوع واحد تقريبًا أعلنت إسرائيل نصرها.
سقوط الجولان شكّل نكسة لسوريا نظرًا إلى موقعه الاستراتيجي الذي لا يبعد عن العاصمة دمشق سوى 65 كيلومترًا، بالإضافة إلى سيطرة إسرائيل على “مرصد جبل الشيخ” المطل على العاصمة، وتطل هضبة الجولان على جنوبي لبنان أيضًا وشمالي فلسطين المحتلة وجزء كبير من جنوبي سوريا.
ورغم مرور 57 عامًا على احتلال الجولان، و51 عامًا على “حرب تشرين” عام 1973، لم تنجح سوريا باستعادة المنطقة الضرورية للأمن المائي والأمن الاستراتيجي، وفي 1974، وقع الطرفان اتفاقية “فصل القوات”.
تضمنت الاتفاقية التي نشرتها “الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية“، وكذلك “أرشيف الدولة” الإسرائيلي، أماكن تمركز القوات على الأرض ومناطق سيطرة كل منهما، وإعادة أسرى الحرب والجرحى لديهما وجثث الجنود، وإنشاء قوة مراقبة تتبع للأمم المتحدة، ووقع الاتفاق عن الجانب السوري، حكمت شهابي، أحد المقربين من الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد.
انتقلت الحرب بين سوريا وإسرائيل، عقب 1973، من الأراضي السورية، والجولان تحديدًا، إلى لبنان، خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في 1982، لكن مسارًا آخر نشأ بين الطرفين وهو “مسار التفاوض” الذي بقي حتى وفاة حافظ الأسد عام 2000، ووصول نجله بشار الأسد لحكم سوريا.
مسار للتفاوض
فرضت نهاية الثمانينيات ظروفًا إقليمية جديدة على سوريا، فانتهت حرب لبنان في 1990، وهو العام نفسه الذي غزا فيه صدام حسين الكويت، وكانت آخر أشهر الاتحاد السوفييتي قبل سقوطه في العام التالي، ما أجبر الأسد الأب على اتخاذ مسار مختلف عن ذلك الذي كان في السبعينيات والثمانينيات من القرن الـ20، واتجه لعقد مفاوضات مع إسرائيل في مؤتمر “مدريد” عام 1991، ليكون المؤتمر إحدى محطتين رئيستين في هذا المجال، إلى جانب مفاوضات “كامب ديفيد”.
ووفق كتاب “سوريا وإسرائيل من الحرب إلى صناعة السلام” من تأليف موشيه معوز، سعى الأسد منذ عام 1988 لمنح الأولوية للدبلوماسية بدلًا من الحرب، وبدت سوريا مستعدة لعقد اتفاق سلام، وبالتزامن مع هذا الاستعداد، ازدادت الروابط بين الأسد وإيران وفصائل فلسطينية و”حزب الله”.
وفي آذار من ذلك العام، اجتمع وزير الخارجية السوري حينها، فاروق الشرع، مع وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، وأخبره أنه عمل مع كل من مصر وإسرائيل لـ14 شهرًا لإجراء محادثات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وطالبه بعقد مؤتمر إقليمي، فردّ الشرع، وفق مذكراته “الرواية المفقودة”، بأن يكون المؤتمر دوليًا.
هدفت إسرائيل، وفق الشرع، إلى تعاون اقتصادي مع العرب، وزار بيكر الأسد في دمشق واستمر الاجتماع ثلاث ساعات، وعاد مجددًا في نيسان 1991، وعقد اجتماعًا مع الأسد امتد لتسع ساعات.
واستمرت جولات بيكر بين دول المنطقة حتى تشرين الأول 1991، ضمن مفاوضات معقدة، حتى عقد المؤتمر بمدريد في تشرين الأول 1991، لكن المفاوضات فشلت بين سوريا وإسرائيل، بينما أفضت لاتفاقيتي “أوسلو” مع السلطة الفلسطينية عام 1993، و”وادي عربة” مع الأردن في 1994، وتوقفت مع الأسد في عام 1996، لكنها أفضت كذلك لما عُرف بـ”وثيقة رابين”، وهو تعهد شفهي من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، قبل اغتياله عام 1994، بالانسحاب من الجولان مقابل التطبيع.
لم تغب المفاوضات طويلًا، وعادت واشنطن مجددًا للحديث مع الأسد حول سلام محتمل، ووفق ما نشرته مجلة “المجلة” السعودية وأشار إليه كذلك الشرع في مذكراته، فإن التواصل لم ينقطع وعادت الاجتماعات للانعقاد مجددًا في عام 1999، ضمن مصطلح “أرجل الطاولة الأربع”، في إشارة إلى أربعة عناصر تشكل السلام بين الطرفين.
والعناصر هي انسحاب إسرائيلي كامل من الجولان، وترتيبات أمنية، وتطبيع العلاقات، وجدول زمني للتنفيذ.
التقى الشرع في عام 1999 رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، إيهود باراك، ووزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين أولبرايت، في أمريكا، وأكدا على “رغبة عميقة” في تحقيق السلام.
وجاء اللقاء بعد اتصالات بين الرئيس الأمريكي حينها، بيل كلينتون، وحافظ الأسد، وإيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي في تلك الفترة.
سبقت اللقاءات الرسمية، بحسب الشرع، لقاءات بين خبراء وبشكل سري في أماكن منعزلة قبل الإعلان عن استئناف المفاوضات، ولم تكن المفاوضات مباشرة، باستثناء جلسة واحدة، وسادت خلافات حول الخطوط الحدودية التاريحية لخط “الرابع من حزيران” (الخط الأخير الذي سيطرت عليه سوريا قبل حرب 1967)، وفي حين طالب الإسرائيليون بعدم اقتراب السوريين من حدود البحيرة، رفض السوريون ذلك، كما رفض الأسد عرضًا كنديًا بتحويل جميع الأراضي المحيطة بالبحيرة إلى محميات طبيعية.
طوال عام 1999، لم تصل الوفود إلى نتيجة نهائية للمفاوضات تؤدي إلى توقيع اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل، حتى مع لقاء الأسد بالرئيس الأمريكي الأسبق، بيل كلينتون، في ذلك العام.
بعد ستة أشهر من آخر محاولة لإقامة اتفاق سلام بين الأسد وإسرائيل، أعلن عن وفاة حافظ الأسد في دمشق، ثم تولى نجله الثاني، بشار الأسد، منصب الرئيس بعد تعديل دستوري خفض سن الرئاسة من 40 عامًا حينها إلى 34 عامًا.
مفاوضات غير مباشرة
بعد وفاة أبيه، وجد الأسد الابن نفسه وسط ظروف محلية وإقليمية معقدة، وسرّبت معلومات تداولتها وسائل إعلام عربية في عام 2004 عن إمكانية عقد محادثات سلام جديدة، وأن بعض الاجتماعات عقدت بين الطرفين في تركيا وأوروبا، بوساطة من رجل الأعمال الأمريكي- السوري إبراهيم سليمان.
وعقب “حرب تموز”، أعلنت إسرائيل في 2007 عن استعدادها لعقد اتفاق سلام مع سوريا بشرط قطع علاقاتها مع طهران و”حزب الله” وطرد الفصائل الفلسطينية من أرضها، وفي العام نفسه، قال وزير الخارجية السوري، فاروق الشرع، إنه لا نية لسوريا لخوض حرب ضد إسرائيل، لكنها تعرف أن الأخيرة تبحث عن أي ذريعة لفعل ذلك، في حين صدر تصريح ثانٍ عن نائبه حينها، أحمد عرنوس، بأن سوريا مستعدة للتفاوض على أساس مرجعية مدريد (الأرض مقابل السلام) ودون شروط مسبقة.
بقيت التصريحات دون تحركات جدية، إلا أن وساطة تركية في عام 2008 دخلت لتحرك مياه المفاوضات الراكدة بين الطرفين، وعقدت اجتماعات غير مباشرة، قبل أن تنهار بدورها، إثر الحرب الإسرائيلية على غزة.
وفي 2010، أعلن الأسد عن “التزام سوريا بالسعي للسلام مع إسرائيل”، وذلك خلال مقابلة تلفزيونية مع قناة “المنار” التابعة لـ”حزب الله”، معتبرًا الحرب “الحل الأسوأ”، لكنه لم يرَ “أملًا في الحكومة الإسرائيلية”، في حين قالت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، إن السلام مع سوريا يجب أن يأتي أولًا لمنعها من الانزلاق في حضن إيران.
ما الجولان بالنسبة لسوريا؟
طوال سنوات حكم الأسدين، تراوحت العلاقات بينهما وبين إسرائيل، من الحرب والمعارك وصولًا لمفاوضات سلام معقدة، ولم يفضِ أي من المسارين لاستعادة الأراضي السورية، لكنهما نجحا باستثمار هذه الحالة لتثبيت دعائم حكمهما لسوريا عبر رفع شعارات وطنية تحاكي الشعور الشعبي، حول استعادة الأرض والقضية الفلسطينية.
تأخذ المفاوضات وقتًا طويلًا لإنجازها لما تحتويه من تفاصيل معقدة، تتعلق بالحدود وترسيمها والنفوذ الأمني والعلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية، ورغم أنه ليس من الضرورة أن يحمل كل اتفاق سلام تفاصيل شاملة، فإنه يحمل بالحد الأدنى، وتحديدًا في حالات الحروب والنزاعات، تفاصيل كثيرة.
ويعتقد الكاتب السوري محمد زعل السلوم أن أهمية الجولان السياسية بالنسبة لإسرائيل تكمن في كونها نقطة تفاوض.
وأضاف أن النظام لم يتصالح مع إسرائيل لأن المصلحة بأن تبقى الجولان “نقطة لتبرير وتغطية المشروع الشيعي الإيراني في المنطقة”.
لا سلم ولا حرب
كان حافظ الأسد في عام 1967 وزيرًا للدفاع في سوريا حين سقط الجولان، ولاحقًا تحدث مسؤولون سوريون سابقون عن غموض لفّ عملية انسحاب القوات السورية، قبل وصول القوات الإسرائيلية للمنطقة، عبر صدور الإعلان “66”، ومنهم وزير الإعلام السابق في تلك الفترة، محمد الزعبي، دون وجود وثائق تؤكد الأمر.
وقال الزعبي خلال لقاءات تلفزيونية إن الإعلان صدر بناء على طلب الأسد.
لاحقًا استمر الأسد وحتى بعد “حرب تشرين” عام 1973، برفع الشعارات القومية في خطاباته ومعاداة إسرائيل، وكذلك نجله بشار، حتى في أثناء محادثات السلام، وهو ما يعطي انطباعًا عن كيفية نظرة كليهما لإسرائيل والجولان.
وفق المحلل السياسي حسن النيفي، يمكن التأكيد على أن النظام السوري ومنذ 1971، تعاطى مع قضية الجولان من خلال منظورين مختلفين.
الأول يحيل إلى ما يشبه “الوزمة النفسية” التي تتراكم تحتها مشاعر الذنب وعقدة النقص، نظرًا إلى الاتهامات المباشرة لحافظ الأسد عن مسؤوليته المباشرة بخسارة الجولان حين كان وزيرًا للدفاع، وربما هذه المسألة ما جعلته يردّد في يوم من الأيام: “أريد الجولان بالكامل”.
ويحيل المنظور الآخر إلى اعتبار احتلال الجولان يتيح للنظام الإبقاء على حالة “اللا حرب واللا سلم” التي سعى النظام دائمًا لتكريسها، بغية استثمارها أمام فشله في استحقاقات أخرى سواء كانت داخلية ذات صلة بمسائل التنمية أو قضية الحريات، أو خارجية لابتزاز الدول العربية الأخرى.
ويرى النيفي أن الجولان أو فلسطين أو أي جزء عربي تحتله إسرائيل أو سواها، لا قيمة له عند النظام إلا بمدى صلاحيته للاستثمار والتوظيف المباشر لخدمة السلطة بالدرجة الأولى، لذلك حرص حافظ الأسد وابنه من بعده على الالتزام الصارم بقواعد الاشتباك على جبهة الجولان.
جبهة هادئة
بين المعارك العسكرية التي انتقلت من سوريا إلى لبنان خلال حكم حافظ الأسد، أو لاحقًا عندما دخل في عمليات مفاوضات معقدة، دخلت سوريا عمليًا بحالة اللا حرب واللا سلم، وطوال سنوات، أضحت جبهة الجولان من أكثر الجبهات هدوءًا، حتى جاء عام 2011.
في حزيران من ذلك العام انطلق مئات المتظاهرين الذين حاولوا اقتحام الحدود للمرة الأولى منذ 1974، وردّت إسرائيل بإطلاق النار عليهم، وذلك في ذكرى “نكسة 1967″، ونجح بعضهم بتجاوز أول خط من خطوط الأسلاك الشائكة، كما هاجم مئات من الشبان في بلدة مجدل شمس بالجولان المحتل القوات الإسرائيلية، وفق ما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، وسبقتها محاولات مشابهة في ذكرى “نكبة 1948”.
ولا يمكن معرفة إن كان الأسد أصدر أوامر للسماح بالمتظاهرين بالتوجه إلى المنطقة، إلا أنه يمكن أن تكون هذه النظرية صحيحة باعتبار السيطرة الأمنية الكاملة لنظام الأسد على سوريا، وهدوء الجبهة نفسها.
وفق المحلل السياسي حسن النيفي، فجبهة الجولان على مدى أكثر من 40 عامًا لم تشهد رصاصة واحدة من الجانب السوري، وقد حصد النظام السوري ثمار التزامه من خلال حرص إسرائيل على عدم التفريط به كنظام حكم باعتباره الحارس المثالي لحدودها، ولعلها من المفارقات الغريبة حقًا أن قرار إبقاء النظام أو إزالته هو قرار إسرائيلي حتى اللحظة الراهنة، بحسب رأي النيفي.
الأسد لا يريد الجولان كأرض تعود إلى البلاد السورية، بل يريده قضية عالقة تخضع لمساومات وبازارات سياسية وقضية قابلة للاستثمار، وليست قضية توجب التضحية من أجل التحرير، وهذا الخيار يتيح له أن يستفيد من الجولان سلطويًا وأمنيًا.
حسن النيفي
محلل سياسي
كما أن بقاء الجولان محتلًا يعفي الأسد من مواجهة استحقاقات أخرى، ويمنحه مقعدًا في المقدمة ضمن صفوف “محور المقاومة “.
ارتدادات الثورة
لم يقف الانقسام السياسي الذي حدث في بدايات الثورة السورية عام 2011 عند المنطقة المنزوعة السلاح، بل دخل الجولان، وصارت تستخدم فيه مصطلحات ألفها السوريون عقب الثورة مثل “منحبكجية، شبيحة، بعثيين، مخبرين”، وفق ما قاله الصحفي حسان شمس لعنب بلدي، وهو من أبناء هضبة الجولان ويقيم فيها.
وأضاف أن تدخل النظام في المنطقة خلّف توجهًا لدى بعض أبناء الجولان لإطلاق مسيرات موالية له، ترفع فيها صور رئيسه بشار الأسد، في وقت يقف فيه جزء من أبناء المنطقة على الضفة المعارضة له، ويدعم مطالب السوريين بالخلاص من حكم النظام.
وكان للثورة السورية ارتدادات على أبناء المنطقة أنفسهم لعبت دورًا حتى في توجه أبناء المنطقة للحصول على الجنسية الإسرائيلية إلى جانب عوامل أخرى لم تترك للجولانيين بديلًا.
ومنذ احتلال إسرائيل للجولان في 1967 كان يقيم فيه 7000 نسمة، بينما يقيم فيه اليوم 27 ألفًا تقريبًا، معظمهم ولدوا بعد الاحتلال.
الصحفي حسان شمس أضاف لعنب بلدي أن أعداد المقبلين على التجنيس في إسرائيل كان محدودًا مع صدور قرار ضم الجولان، بعد أن كان تحت الحكم العسكري، وكانت تلك الفترة متوترة من حيث علاقة أبناء المنطقة مع سلطة الاحتلال التي حاولت فرض الجنسية الإسرائيلية بقوة السلاح على أبناء المنطقة.
ومع مرور السنوات، حافظ أبناء المنطقة على تمسكهم بالجنسية السورية، لكن العنف الذي استخدمه النظام السوري أمام السوريين عام 2011، ونقله الشقاق الحاصل في المجتمع السوري إلى الجولان المحتل كانت له ارتداداته على أبناء المنطقة.
واعتبر الصحفي حسان شمس أن تدخل النظام في البنية الاجتماعية لأبناء الجولان ترك انقسامًا عموديًا وأفقيًا في الجولان، ولم يقف النظام السوري ولو للحظة واحدة عن التخريب في بنية القرى المحتلة الاجتماعية منذ 2011، بصرف النظر عن خصوصية وحساسية وضع هذه القرى القابعة تحت الاحتلال.
بغض النظر عن إجرام النظام السوري، كان عليه أن يراعي حساسية المنطقة، وينظر إلى وظيفته الأساسية على أنها تحرير الجولان، بما أنه كان مواظبًا لعقود على جلد السوريين باسم أبناء الجولان وتحريرهم المزعوم، خصوصًا مع علمه أن إسرائيل كانت تحاول سلخ هوية أبناء المنطقة السورية عنهم.
حسان شمس
صحفي من أبناء الجولان المحتل
وفي وقت يقيم فيه أبناء الجولان على أرضهم بوثائق تشبه “الإقامة الدائمة”، لا يوجد الكثير من الأفق أمامهم، سواء للراغبين منهم بإكمال دراستهم في الجامعات، أو الراغبين بالسفر نحو الخارج.
وكان أبناء الجولان المحتل ينتقلون إلى سوريا عبر سيارات قوات “حفظ السلام” التابعة للأمم المتحدة، لإكمال تعليمهم في الجامعات السورية، ولكن مع اندلاع الثورة السورية، أوقف النظام هذه الاتفاقية، ما ترك أبناء المنطقة أمام خيار واحد، وهو الانتشار في دول العالم بحثًا عن تحصيل علمي، لكن خيار السفر للخارج لا يعتبر متاحًا بالنسبة لمعظمهم، نظرًا إلى كونهم لا يملكون وثائق يعتد بها.
الصحفي قال لعنب بلدي، إن الاحتلال الإسرائيلي كان يلغي وثائق من يقيم في الخارج لمدة أربع سنوات متواصلة، كما يطبق الإجراء نفسه على الحاصلين على إقامات دائمة في دول أجنبية، ما شكّل دافعًا لعدد من أبناء الجولان للحصول على الجنسية الإسرائيلية، فذلك يحسّن خياراتهم من حيث الحصول على “فيزا”، إلى جانب إتاحة العودة إلى الجولان لاحقًا.
علاقة أبناء الجولان بسوريا
بعد نصف قرن على احتلال الجولان، ظهرت أجيال جديدة لم تعاصر ما يتحدث عنه الأجداد في هذه المنطقة، فمنهم من تمسك بمطلبه بعودة الجولان إلى سوريا، لكن جزءًا كبيرًا من أبناء المنطقة لا يعرفون سوريا، ولم يبقَ من أثر هذا المطلب أمامهم سوى الشعارات.
وتغيرت آراء وشكل علاقة أبناء المنطقة بسوريا بعد الثورة السورية، وفق الصحفي حسان شمس، إذ قال لعنب بلدي، إن هناك من أبناء الهضبة من يخرج بمسيرات مؤيدة للنظام، لأسباب متعددة، منها شعارات التحرير والعروبة وما إلى ذلك.
وعلى المقلب الآخر، يقف جزء من أبناء الجولان موقفًا مناهضًا للنظام من باب دعم مطالب أبناء السويداء مثلًا.
وأضاف أن هناك فئة أخرى لا تكن الودّ للنظام السوري بمعزل عن الثورة السورية، وتتعامل هذه الفئة مع النظام وإسرائيل على أنهما وجهان لعملة واحدة، ويعتقد بعضهم أن وجودهم تحت الاحتلال هو نتيجة حتمية لوجود النظام السوري كحاكم لسوريا، وحارس لأمن إسرائيل.