خطيب بدلة
أنا أحب أهل قرية حربنوش الجبلية، القريبة من بلدتي، معرة مصرين، لأنهم أناس طيبون، كرماء، ظرفاء، وعلى الرغم من طباعهم النزقة، تجد في أحاديثهم جملًا بالغة الذكاء والدلالة، فالحربنوشي لا يقول لك: أنا فقير، فهذه عبارة تقليدية، بل يقول: الفقر ناصب حواليّ دبكة!
إنه تشبيه حسي جميل، فيه لمعة من الإبداع لا تجد مثيلها إلا عند أديب مبدع، كمحمد الماغوط الذي كتب، ذات مرة: إنني مُحَاصَر كالقلم في المبراة! وهناك تشبيه جميل آخر، تسمعه من الرجل الحربنوشي حينما تقعد وتحكي له عن فقرك، ومشكلاتك، وهمومك، فيرد عليك: “اتركني أخي، كل واحد منا قيلتُه معبّاية الشنتيان”. وهذه العبارة تحتاج إلى شرح، فهناك نوع من الانتفاخ المائي الجلدي، يخرج في كيس الصفن الذي يحمل خصيتي الرجل، اسمه الطبي “قيلة مائية”، ويسمونه في بعض المناطق “القِرْق”، وإذا أنت نظرت إلى وسط الرجل المَقيول، ترى كتلة كبيرة لا يستطيع البنطلون الضيق احتواءها، وأما الشنتيان، فهو سروال واسع، فضفاض، ومع ذلك، القيلة تملؤه، وهذه كناية بارعة عن ضخامة قيلة الرجل، التي ترمز لكبر مصيبته.
يمكننا، الآن، أن نتحدث، بلغة أهل حربنوش، في أوضاع أهلنا السوريين الذين لم يغادروا البلاد، أو اللاجئين في المخيمات، فنقول إن الفقر يدق لهم بطبوله، وينصب حولهم دبكاته، ناهيك بالقهر، والذل، والتشرد، ويا ليت السوريين اللاجئين في أوروبا يتركونهم بحالهم، فترى الواحد من هؤلاء “مجعوصًا” على أريكة منزله الدافئ في بلد اللجوء، وكل متطلباته مؤمّنة، ومع ذلك يظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، في أوقات فراغه، ليبيض بيضة أوزة من طيز دجاجة، متحدثًا عن عظمة هذا الشعب، وعنفوانه، وتعلقه بالحرية والكرامة، واستعداده للتضحية، ولا يحرضه على مقاتلة النظام المجرم فقط، بل يذكّره بأن فلسطين هي قضيتنا المركزية، ويجب أن يكون شعارنا الأساسي في الحياة: ع القدس رايحين شهداء بالملايين.
لو كان أي واحد من أبناء الشعب، المحاصر وسط دبكة الفقر، قادرًا على الوصول إلى ذلك اللاجئ البطران، لأمسك بتلابيبه، ودق ظهره بالجدار، وقال له: يا رجل اسكت، ألا ترى قيلتنا، نحن السوريين، معباية الشنتيان؟ مرت 75 سنة عجافًا، وحكامنا يصيحون صيحتك، “ع القدس رايحين”، ويوجهون إلينا خطاباتهم الحماسية الإنشائية، يصرفون على الجيوش المليارات، ويجندون شبابًا بعمر الورود، ويزحفون بهم نحو إسرائيل، من أجل أن يستردوا القدس، والمسجد الأقصى، ولا يقبلون إلا بكامل التراب الفلسطيني، من النهر إلى البحر، ثم يعودون ليخطبوا علنًا، بأن العدو أقوى منا، لأنه مدعوم من القوى الاستعمارية، الإمبريالية، الرجعية، المتصهينة… ويسكتون لحظة ثم يستدركون: ولكننا، على الرغم من كل هذا، انتصرنا، فقد حررنا “إرادة” القتال لدى مقاتلنا، وحطمنا أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وحققنا التوازن الاستراتيجي مع الأعداء.
أكثر ما ينطبق على هؤلاء القوم الكذابين، النصابين، المقامرين بدماء أبناء شعوبهم، ومقدراتها، قول سعيد صالح، بعدما تعرض لعلقة تورم على إثرها وجهه: علقنا نفس العلقة اللي فاتت، لا قلم زاد ولا قلم نقص!