المتاجرون في سوق البغاء السياسي
غزوان قرنفل
عندما يلتقي شخصان في ماخور لا يمكن لأحدهما أن يدّعي الطهر والعفاف، ويصم قرينه ويعيّره على أنه من رواد المواخير.
هذا تمامًا ما يحصل في حالة انقسام السوريين، بين شامت بمقتل إسماعيل هنية لأنه وضع بيضه في سلة الإيراني العدو الصريح لثورة السوريين، وبين مترحم عليه يرى فيه مناضلًا لأجل قضيته بمختلف السبل وشتى التحالفات.
والحقيقة أن تلك الواقعة ليست الأولى التي تقسم صفوف السوريين، المهشمة أصلًا، فالسوريون أدمنوا الانقسام حتى ليخال المرء أنه سيأتي يومًا ينقسم فيه سوري واحد على نفسه، ويخوّن نفسه ما بين موقف أعلنه صباحًا من مسألة ما، وموقف آخر اتخذه مساء من ذات المسألة، وهذا يؤكد أن ليس لدى السوري بوصلة يهتدي بها لأنه لا يملك أصلًا خريطة ولا رؤية لما يريد فعله أو الوصول إليه.
أزعم ابتداء أن معظم من اتخذوا موقفًا متطرفًا وشامتًا في مقتل إسماعيل هنية لا يعرفون شيئًا عن تاريخ القضية الفلسطينية نفسها، ولا عن تاريخ النضال الفلسطيني ولا عن تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية ومراحل تطور نضالاتها ولا عن أخطائها وعثراتها، ولا عن أعمالها وبطولاتها وتضحياتها، بل ولا حتى عن قرار التقسيم ولا القرار “242” ولا عن اتفاق “أوسلو”، ولا عن حصار بيروت وصمودهم فيها، ولا عن تشريد المقاتلين الفلسطينيين، ولا عن الجرائم والمجازر والدور المغرق في العمالة الذي مارسه النظام السوري بحقهم، ولا عن تمسك ياسر عرفات بقراره المستقل بمواجهة الأسد الأب ومواجهة عواقب ذلك، ولا عن نشأة “حماس” ونضالاتها. وبالتالي لا يجوز لمن كان متصحر المعرفة أن يملك الحق في إطلاق أحكام قيمة على أولئك الذين طوّبوا حياتهم لخدمة قضيتهم وقدموا لها من التضحيات ما لا يقدر عليه أولئك المهرجون المتاجرون الذين يمتهنون الطعن بشرف وكرامة الآخرين ونضالاتهم فحسب.
وأزعم ثانيًا أن أولئك المتاجرين لديهم أيضًا قضيتهم، التي تركوا لكل عابث ومتاجر وقوّاد أن يعبث فيها، فلماذا يصمون الآخرين بالخيانة والارتهان بينما هم مرتهنون حتى النخاع لكل القوى الدولية والإقليمية التي ما توانت لحظة عن المبازرة والمتاجرة في أسهم قضيتهم في كل بورصات العالم وأسواقها.
صحيح أن “حماس” ارتكبت الكثير من الأخطاء والخطايا، ومنها الارتماء في الحضن الفارسي، وهذا على الضد من مصالحنا كسوريين، وغالبًا هو على الضد من مصالح الفلسطينيين على المدى البعيد أيضًا، لكن ذلك يجب ألا يجعلنا نفقد صوابنا للدرجة التي نتنكر فيها للحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني أو لحقه المشروع في الدفاع عن تلك الحقوق، ولا أن نتحول إلى شتّامين وشامتين بمقتل أحد رموز النضال الفلسطيني حتى لو كنا مختلفين معه في الرؤية والمنهج، بل وأكثر من ذلك، فإني أزعم أني من أوائل من عبروا عن موقف واضح من عملية 7 من تشرين الأول 2023 (7 أكتوبر) وتداعياتها في مقال لي بعنوان “إعادة توزيع أوراق اللعب الإقليمي على طاولة غزة”، عبرت فيه عن قناعتي بأن “تلك العملية لم تأتِ لمحض دوافع وطنية فلسطينية نؤمن جميعًا بأحقيتها، بل جاءت ضمن سياق صراع إقليمي إسرائيلي– إيراني محموم على الأدوار ونطاق السيطرة وملء هذا الفراغ الهائل في المنطقة العربية، مع غياب أي مشروع عربي يحفظ المصالح والحد الأدنى من الأمن القومي العربي المستباح، وضعف وانهيار النظم التي كان من الممكن أن تشكل حوامل لهذا المشروع”، وما زلت أرى أنها جاءت في سياق خدمة المشروع الفارسي أكثر مما هو لخدمة قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة، وقد امتنع أكثر من موقع وصحيفة إلكترونية عن نشر المقال آنذاك بسبب مخالفته لرؤيتهم وخطهم التحريري، أو لقفزه على مواجع الشعب الفلسطيني كما زعم البعض، لكني أصررت على تقديم رأيي ورؤيتي وتم نشر المقال فعلًا. ورغم ذلك، ورغم قناعتي أن هذا التحالف غير المقدس مع الفرس لن يعود على الفلسطينيين بالخير، فإن ذلك لا يحجب عني الإقرار بحقوق ثابتة للشعب الفلسطيني، ولا إنكار ما يبذلونه من تضحيات لحماية تلك الحقوق والتحصل عليها.
سؤالي الآن لأولئك المتاجرين المتنطعين الرافضين مجرد كلمة رثاء من غيرهم لرجل بذل كل ما يمكنه لأجل وطنه وقضيته، أخطأ هنا وأصاب هناك، وهادن هنا وارتهن هناك، أين هي مواقفكم الحادة، القاطعة المانعة من قضيتكم؟ أليست قضيتكم الآن مرتهنة لسياسات ومواقف تركيا وتحالفاتها مع روسيا التي سحقت ثورتكم ومحقت مدنكم وبلداتكم؟ ألم تكن كذلك عندما ذهبتم صاغرين إلى “أستانة”؟ وهرولتم كالأنعام إلى “سوتشي”؟
ألم تكونوا وقضيتكم وثورتكم رهائن للدعم القطري، أو السعودي، أو مرتهنين لغرف الدعم الأمريكية؟ فحدد الجميع لكم خرائط سيطرتكم ثم ما لبثت كل هذه القوى أن أمرتكم بالتسليم فامتثلتم؟ أم تعتقدون أن الارتهان للفرس مختلف عن الارتهان للأتراك والسعوديين والقطريين.
معيبة ومفجعة ومقرفة تلك الضحالة والتفاهة التي آلت إليها حالنا، وأن نتحول إلى مجرد شتّامين وشامتين بكل شيء ومنقسمين على كل شيء لمجرد أننا أفشلنا ثورتنا بارتهاننا، ولم نعرف كيف نحافظ عليها وعلى تضحيات ثوارنا ومناضلينا، فاكتفينا اليوم بتوزيع صكوك الوطنية وحجبها، وتلك من سمات العاجزين والمنافقين والمتاجرين في سوق البغاء السياسي، وقانا الله وإياكم من شرور الانحدار إلى هذا القاع السحيق الذي لا منجى منه ولا خروج.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :