محو الأمية الإعلامية والرقابة

tag icon ع ع ع

لمى قنوت | رهام قنوت رفاعي

لم يعد الإعلام حبيس الجهات الاحتكارية التقليدية، سواء كانت دولًا أو مؤسسات تجارية، فكل فرد لديه امتيازات الوصول إلى التكنولوجيا أصبح بإمكانه صنع خبر وصورة وفيديو، ما فتح حدود التأثير والتفاعل، وخلق ديناميات جديدة في تشكيل أو تغيير رأي عام. ويعتمد بناء تفاعل مواطني ناقد، أمام الكم الهائل من الرسائل الإعلامية والإعلانية والتوجهات السياسية، على محو الأمية الإعلامية، لشحذ القدرات على فهم وتحليل ونقد وتقييم الرسائل التي نتلقاها كمهارة أساسية وممارسة واعية دائمة.

تبدأ عملية محو الأمية بإدراك أن كل رسالة إعلامية هي رسالة مركبة ومصنوعة (constructed)، وعليه يبدأ طرح الأسئلة عن تشييدها ومفادها، مثل، من صنع هذه المادة، ومن شارك بها، ومتى تم ذلك؟ وما الغرض من تصنيعها، ومن الجمهور المستهدف، وما الذي تتوقعه الجهة الناشرة منه؟ أما عن اقتصاد المحتوى، فالسؤال يكون عن مصدر تمويل الجهة الناشرة، ومن يكسب المال من هذه المادة الإعلامية؟

ولفهم فحوى الرسالة الإعلامية بشكل دقيق، يتطلب ذلك التفكير في المعاني والقيم ووجهات النظر الواضحة والضمنية المقدمة في الرسالة، والتساؤل عن القيم ووجهات النظر التي تم استبعادها. للتقنية وشكل المادة أيضًا دور في كيفية إيصال الرسالة وتلقيها، فالتغريدة على منصة “إكس” تختلف بإمكانيتها ومحدوديتها التقنية عن فيديو قصير على “إنستجرام”، وهي تفاصيل تشغل عملية العصف الذهني خلال صنع المحتوى.

ولا يُجَرِد المتلقي نفسه من الرسالة، فمحو الأمية الإعلامية يتطلب أن نسأل أنفسنا عما أثارته الرسالة من مشاعر وأفكار في خوالجنا، وكيف يمكن للآخرين تلقيها بشكل مختلف. هل استفزتنا المادة للرد أو التفاعل معها؟ ويكون تقييمنا لمدى مصداقية المادة بناء على مصادر المعلومات أو الأفكار أو التأكيدات وتاريخية الجهة الناشرة وإمكانية الوثوق بها أو بمصادر معلوماتها حول هذا الموضوع.

تداخلات الإعلام التقليدي والجديد

يستعين الإعلام التقليدي اليوم بالمنصات الرقمية الجديدة للتطوير والدفع بمحتواه نحو جمهوره المستهدف الذي بات يفضّل متابعة الأخبار أو الترفيه عن النفس باستهلاك المحتوى الإعلامي عبر أجهزة الهواتف الذكية، ويواكب الإعلام التقليدي تطورات محتوى “المؤثرين” من مشاهير “تيك توك” و”إنستجرام”، والمحتوى الرائج، ويعيد نشره على شاشات التلفاز عندما يتناسب مع سياسة المؤسسة وتوجهها.

منذ 7 من تشرين الأول 2023 إلى اليوم، يُجنّد العديد من الناشطين الرقميين والصحفيين المستقلين حول العالم، رجالًا ونساء، لرصد عناوين الصحف والقنوات الإخبارية العالمية ونقدها باستخدام أسئلة محو الأمية الإعلامية، لتصحيح المعلومات الخاطئة، وتوضيح الأحداث، وتسمية الجاني عندما تُستخدم صيغة المبني للمجهول في العناوين المبهمة، وإعادة تأطير المواد الإعلامية سياسيًا وتاريخيًا، فأسهمت هذه الجهود في دحض “البروباغندا” الصهيونية “الهاسبرا”، ورفع مستوى الوعي العالمي بحيثيات الحدث وتاريخية القضية الفلسطينية والاحتلال.

الرقابة الإعلامية الجديدة

تتأثر وتتغير الرسالة الإعلامية وفق الرقابة والأجواء السياسية، فإما أن تمارس الجهة المنتجة للمحتوى، سواء كانت مؤسسة أم فردًا، رقابة ذاتية، أو تنصاع لرقابة خارجية، أو تتحداها أو تتحايل عليها. لكن التطور التكنولوجي يتسارع بشكل يومي في سباق شركات عملاقة وحكومات لامتلاك أحدث التقنيات الرقمية لضمان سلطتها وتراكم امتيازاتها، فتعيد بذلك إنتاج الخلل في موازين القوى بأشكال جديدة ووسائل مبتكرة، كتطوير الخوارزميات الرقمية التي تحدد بناء على معطيات مختلفة أي فحوى هو الأكثر رواجًا ويتناسب مع نمط استهلاك مستخدم ما بمنطقة جغرافية معينة لتدفع بمحتوى دون آخر إلى قمة صفحة التغذية (feed) الخاصة بذلك المستخدم.

يتهم الناشطون والناشطات العديد من وسائل التواصل الاجتماعي بأشكال رقابة وإسكات مختلفة، كإغلاق الحسابات و”حظر الظل” أو “shadow ban”، وهو مصطلح يشير إلى انخفاض كبير في رؤية مشاركات الفرد أو قصصه أو حسابه دون إعلامه بذلك، عن طريق برمجة خوارزمياتها بشكل معين للتعتيم على ما تصنفه تلك المنصات بخطاب سياسي غير مرغوب فيه، كالخطاب السياسي الراديكالي الإلغائي للمؤسسات القمعية، كالشرطة والسجون في شمالي أمريكا، والخطاب الداعم للقضية الفلسطينية. غير أن أغلب هذه المنصات لطالما نفت توظيف مثل هذه التكتيكات وتمسكت بسردية ديمقراطية منصاتها ومسؤوليتها تجاه جميع مكونات مجتمعها (community) في الحماية من الإساءة أو الأذى.

في 20 من كانون الأول 2023، صدر تقرير عن “هيومن رايتس ووتش”، يوضح ستة أشكال رقابة ممنهجة تمارسها شركة “ميتا” الأمريكية، التي تملك “فيس بوك” و”إنستجرام” و”واتساب” و”ماسنجر” و”ثريدز” وغيرها من التطبيقات، على المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية، وهي: إزالة المحتوى، وتعليق أو حذف الحسابات، وعدم القدرة على التفاعل مع المحتوى، وعدم القدرة على متابعة حساب ما أو وضع إشارة تنبيهية عليه، والقيود المفروضة على استخدام ميزات مثل البث المباشر، و”حظر الظل”.

شاع خلال الأشهر التسعة الماضية استخدام وسائل ناشطية رقمية متنوعة للتحايل على الخوارزميات والرقابة، كتقطيع الكلمات المفتاحية بحروف لغة أخرى أو رموز تعبيرية (emoji) حتى لا تكون الكلمة مقروءة للخوارزميات، أو بنشر صور شخصية وصور الحيوانات الأليفة بين القصص (stories) على “إنستجرام” مثلًا وطلب تشجيع التفاعل، لتُجبر الخوارزميات على دفع جميع قصص الناشر إلى مقدمة قائمة القصص، أو بالتعليق على المواد الداعمة للقضية الفلسطينية بمعلومات عامة أو الحديث عن أمور ترفيهية كنصائح السفر لإرباك الخوارزميات.

شكّل الحراك الداعم للقضية الفلسطينية في الشمال العالمي ضغطًا سياسيًا على تلك الدول، واستنفرت جماعات الضغط الصهيونية لوصم التحركات وتأطيرها سياسيًا في الإعلام وفي أروقة صناعة القرار على أنها جماعات عنيفة فوضوية جاهلة وكارهة. في أمريكا مثلًا، أدى الضغط إلى تشريعَين صوّت عليهما مجلس النواب الأمريكي، الأول يماهي بين الحركة الصهيونية والديانة اليهودية، ويعتبر أي نقد سياسي للأولى هو معاداة للسامية، والثاني يمنع وزارة الخارجية من ذكر “حصيلة القتلى” من الفلسطينيين والفلسطينيات في عزة، الأمر الذي يمكن اعتباره ضغطًا إعلاميًا غير مباشر لممارسة المزيد من الرقابة الذاتية لوسائل الإعلام في أمريكا.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة