إبراهيم العلوش
مقتل براء قاطرجي بعد مقتل لونا الشبل خلال تموز الحالي في دمشق، يمثل مقتل عميلين من نظام الأسد، الأول يعمل لمصلحة “الحرس الثوري الإيراني”، والثانية تعمل لمصلحة روسيا، وهما من أفخر صناعات نظام الأسد للاستعمال المتعدد.
لا أعرف إن كان دكان آل القاطرجي لا يزال قائمًا في نزلة شارع المنصور وسط مدينة الرقة، إذ كان ذلك المحل الواسع والفخم معدًا للابنين براء وحسام للاستمرار في ممارسة حرفة الأب، المشهور بتجارة الأقمشة وتفصيل الأطقم الرجالية من الجوخ الإنجليزي ومختلف أنواع الاقمشة الثمينة التي كان يحتويها محل العائلة الحلبية، التي سكنت الرقة، وكسبت عيشها فيها لعقود، قبل أن تبرز موهبة الأخوين قاطرجي في العمل التجاري مع تنظيم “الدولة” (ـداعش)، وربط العلاقات التجارية بين نظام الأسد و”داعش” عبر تبادل المحاصيل الزراعية والبترول.
وبعدها تطورت تجارة الحرب التي يمارسانها في الارتباط بـ”الحرس الثوري الإيراني”، عبر نقل الأسلحة والبترول من المنطقة الشرقية في البوكمال ودير الزور وبادية الشام وصولًا إلى لبنان، حيث قتل قبل أيام محمد براء قاطرجي في الصبورة قرب حاجز لـ”الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد، وكان في مهمة تطلبت منه السفر إلى لبنان، المحكوم بنفوذ “حزب الله”، التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني”، وليس من الواضح هل تم تفخيخ سيارته، أم يشتبه بأنه تمت الوشاية به من قبل عملاء النظام التابعين لروسيا، وضربه من قبل إسرائيل، على شاكلة مقتل قادة من “الحرس الثوري الإيراني” في دمشق خلال الأشهر الماضية.
أما لونا الشبل التي قُتلت بحادث مفتعل قرب دمشق في بداية تموز، فقد كانت إعلامية اشتهرت في قناة “الجزيرة” قبل أن تنضم إلى جوقة إعلام النظام، وهي لم تعمل بالبترول ولا بتجارة الأسلحة، بل بترويج الأكاذيب الإعلامية ضد السوريين، والتهديد بـ”داعش” التي كان النظام يوجه تحركاتها عبر عصابة قاطرجي وغيرها من الوسائل، ولعل البرهان الواضح يتجلى بترحيل “داعش” بالباصات الخضراء إلى السويداء في العام 2018، حين تم قتل 250 وخطف أكثر من 36 من أهالي المدينة، وهذه من أبرز تجليات مسرحيات محاربة الإرهاب التي يدعيها النظام.
كانت لونا الشبل من المقربين من الاحتلال الروسي، وكانت تتصدر اللقاءات الروسية- السورية، وافتتحت مطعمًا في دمشق يحمل شعارات روسية، وكانت تنوي الانتقال إلى روسيا مع زوجها عمار ساعاتي الذي كان له دور فعال في أثناء رئاسته لـ”اتحاد الطلبة” في ضرب المتظاهرين والوشاية بهم لأجهزة الأمن، وفي تقرير حديث، قدّر “المجلس البريطاني- السوري” عدد الطلاب الذين اعتقلهم “اتحاد الطلبة” وسلمهم لأجهزة المخابرات بـ35 ألف طالب، وكثير منهم لم يرجع أبدًا.
مقتل عميل إيراني بعد مقتل العميلة الروسية يعد تعادلًا بين القوتين المحتلتين لسوريا، وهذا ما أعاد الهدوء بينهما، فالعداء الصامت بين إيران وروسيا سببه التنافس على اقتسام الموارد الاقتصادية السورية والمواقع الجغرافية الاستراتيجية، كالمواني وحقول البترول ومناجم الفوسفات، وكذلك التنافس على خطط إعادة الإعمار وخطط إعادة هيكلة النظام السوري نفسه.
الرئيس الروسي في استدعائه المفاجئ لبشار الأسد إلى موسكو الأربعاء الماضي، وفي إشارة غير مباشرة إلى التنافس الروسي- الإيراني في سوريا، قال إن هناك إمكانية لتحسين العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بعد أن هيمنت خلال الأسابيع الماضية أخبار العلاقات الاقتصادية السورية مع إيران متجاهلة المصالح الروسية.
طبعًا لم يرضَ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن يتم رفع العلم السوري في أثناء اللقاء، أسوة بالبروتوكول الإيراني في التعامل مع نظام الأسد، حيث يرفض ذلك باعتبار أن سوريا صارت ولاية من ولايات إيران كما قال قاسم سليماني، الذي أقلته طائرة من طائرات رامي مخلوف ليلقى حتفه في مطار “بغداد” قبل أربع سنوات.
مع بروز نماذج من أمراء الحرب أمثال براء قاطرجي ولونا الشبل، يظهر أن خط إنتاج النخب الجديدة في نظام الأسد أصابه صدع، وخسر وحدة المواصفات المحددة لرجالات ونساء النظام، وصار لا بد من التمييز بين نوعين من النخب، هما النخبة الأسدية- الروسية، والنخبة الأسدية- الإيرانية، طبعًا مع مراعاة حدود دنيا من مواصفات الولاء لعائلة الأسد.
ثنائية قاطرجي- الشبل تعبر عن انشطار في بنية النظام لمصلحة دولتي الاحتلال، فهل سيصبح بشار الأسد نفسه ضمن دائرة الاقتسام الفعلي بين سيديه؟ خاصة أن النظام عبر تاريخه كرّس كل قواه، وحشد كل مؤيديه من أجل استبعاد غالبية السوريين من لعب دور مهم في إدارة السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، ولكنه يجد نفسه اليوم أعزل وبلا شرعية شعبية، وهو يواجه إعلانات الدولتين بإجباره على إقامة علاقات اقتصادية قسرية وغير متكافئة، ومطالبته بديون المحافظة على كرسيه، حيث أعلنت إيران صراحة أن ديونها تزيد على 50 مليار دولار، وهي لا تختلف عن تصريحات نائب رئيس الوزراء الروسي السابق للشؤون الاقتصادية، ديمتري روغوزين، عن ثمن دعم روسيا لنظام الأسد، في أثناء زيارة له إلى دمشق، وتأكيده أن روسيا ليست جمعية خيرية.
لن يقتصر الاقتسام بين روسيا وإيران على اقتسام العملاء وقادة الجيش والأجهزة الأمنية، ولا على اقتسام الموارد، والمواني، والقواعد العسكرية، والأسواق الاقتصادية، وخطط الإعمار، سوف يمتد الاقتسام إلى قصر المهاجرين، وستجد كل دولة عملاءها الذين يحمون مصالحها فيه، ولن يكون رحيل عملاء مثل قاطرجي أو لونا الشبل إلا شرحًا تفصيليًا في اقتسام نظام الأسد، الذي يجد نفسه خادمًا لسيدين يجرّدانه من كل ما سعى للحفاظ عليه من رموز السلطة عبر تقتيل وتهجير السوريين.