صدر الفروج وصدر العالم

  • 2024/07/28
  • 1:45 م
خطيب بدلة

خطيب بدلة

خطيب بدلة

خطر لي أن أشبه العقل الجماعي لأمتنا العربية الإسلامية بكشكول أطعمة الشحاذ، وفيه ما تجود به نفوس الكرام، من مسقعة الباذنجان، وفريكة، وشاكرية، ورز، وبامية، وكبب، ومحاشي، وأوزي، بالإضافة إلى البابا غنوج، والمسبحة، والمخللات، ولذلك يلجأ الناس في بلادنا إلى تشبيه الظواهر المكركبة، والمعجقة، بـ”طبيخ الشحاذين”.

الحضارة الغربية تحترم الإنسان، الفرد، المواطن، وتحميه، وتعمل على إسعاده، ويمكن أن تدخل الدولة في حرب مع دولة أخرى من أجله، وأما حضارتنا (التي نسميها حضارة تجاوزًا)، فتمجد الأمة، والجماعة، وتحتقر الفرد، وتعاقبه بذنب، أو دون ذنب، وتكتم أنفاسه، وفي كثير من الأحيان تقتله، وهذا ليس الأمر الوحيد الذي يميز الغربيين عنا، بل تجد أبناء مجتمعهم يتسمون بالتواضع، والصدق، والواقعية، وينظرون إلى الأمور كما هي، دون تكبير، أو تقزيم، يدرسونها، ويفهمونها، ثم يتقدمون لمعالجتها بكل الوسائل العلمية المتوفرة، وأما نحن، فالسمة الأساسية لسلوكنا هي التهويل، والنفاق، والعدوانية، والتكبر، والتنمر، فترى شخصًا سوريًا هاربًا من بلده، لأن النظام الدكتاتوري المجرم متفق مع سلطات الأمر الواقع التافهة على إهانته، وإذلاله، وطرده من بلاده، وبمجرد ما يستقر في دولة أوربية، ويحصل على الإقامة، والمسكن اللائق، والدفء، والطبابة، والاحترام من قبل تلك الدولة، يستيقظ لديه حس العنظزة والفشخرة، فيهرع إلى “فيس بوك”، أو إلى “تيك توك”، ويصيح بالفم الملآن: ونحن أناس لا توسطَ بيننا، لنا الصدرُ دون العالمين أو القبر! ثم يترك أبا فراس الحمداني، ويذهب سباحة إلى أيام الجاهلية، ويهتف بقول عنترة بن شداد: جنة بالذل لا أرضى بها، جهنم بالعز أفخرُ منزلِ، وهو، يا حبة عيني، لا يفرق بين العز والطز، وطوال عمره جائع، ومتعب، ومذلول، حكمته المفضلة في الحياة المشيُ بجوار الحائط والقول “يا رب سترك”، ومع ذلك يقول: لنا “الصدرُ”، مع أنه نادرًا من كان يمتلك فائضًا من المال لشراء نصف كيلو من “صدر” الفروج!

لم يسأل هذا الإنسان التعيس، ولم يتساءل عن الكيفية التي تصل بها الشعوب إلى الصدارة، ولو فعل لوجد أنهم أمضوا عشرات السنين في التفكير، والتأمل، والتخطيط، والعمل الجماعي، وأن مجتمعهم مكافح، متواضع، لا يُزجر فيه طفل، ولا تهان فيه امرأة، وكل واحد من أبنائه يؤمن بحق غيره في الحياة، والكل يلتزمون بالقانون، ويؤمنون بأن التطور الذي يحققه مجتمعهم لا بد أن ينعكس عليهم، بوصفهم مواطنين.

وأما الشطر الثاني من قول أبي فراس: “أو القبرُ” فحدث عنه ولا حرج، وتكاد مخيلاتنا، نحن السوريين، تعجز عن إحصاء القبور التي حفرت من أجل جثث أبنائنا، وإخوتنا، وأمهاتنا، وآبائنا، ولا يستطيع أحد أن يتصور الخنادق التي حفرت بالتراكسات، وألقيت بها جثث المواطنين الذين قتلهم نظام الأسد في مجازره الكثيرة، أو المقابر التي حفرتها سلطات الأمر الواقع ودفنت فيها أبناءنا الذين قتلتهم، ولم يبقَ لنا إلا أن نقرأ ما كتبه شاعرُ الفلاسفة وفيلسوفُ الشعراء، أبو العلاء المعري، في رائعته الشهيرة:

صَاحِ هذي قبورُنا تَملأ الرحْب فأين القبـورُ من عهد عادِ؟

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي