العدالة.. إلى متى؟

tag icon ع ع ع

لمى قنوت

تستدعي جرائم الإبادة الجماعية المستمرة منذ تسعة أشهر ضد السكان في قطاع غزة، وشهادات وصور الأسرى الفلسطينيين، رجالًا ونساء وأطفالًا، المفرج عنهم من سجون الاحتلال، صورًا حُفرت عميقًا في وجداننا منذ أكثر من عقدين من الزمن، وهي صور التعذيب والإذلال الجسدي والجنسي والنفسي لمعتقلين عراقيين في سجن “أبو غريب”، الذي أدارته القوات الأمريكية خلال احتلالها للعراق في عام 2003.

فبالرغم من توثيق وإثبات الجرائم والانتهاكات الممنهجة التي ارتكبها الجيش الأمريكي بحق العراقيين، ما زال الضحايا يعانون من آثار التعذيب والأشكال المتنوعة من سوء المعاملة التي تعرضوا لها، دون اعتراف واعتذار من الإدارات الأمريكية المتعاقبة، واعتبارها انتهاكات فردية محدودة، لا قرارات اتخذت على أعلى المستويات كمنهج في التعاطي مع مراكز الاحتجاز العلنية والسرية التي تديرها أمريكا في العالم، والتي تعتبر امتدادًا لسلوك كولونيالي نهجه الاستعمار على مدى العصور.

كما أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة قطعت سبل مسارات قانونية للاستماع إلى شهادات الضحايا العراقيين، وتم حرمانهم وأسرهم من العدالة وبضمنها جبر الضرر، في تغاضٍ عن مسؤولية قيادات عليا في جرائم حرب، ورعاية مستمرة لسياسات الإفلات من العقاب.

خلال فترة الاحتلال الأمريكي للعراق وحتى تاريخ انسحابه منه في عام 2011، اعتقلت السلطات آلاف العراقيين، نساء ورجالًا وأطفالًا، وقدّرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تقرير أصدرته في عام 2004 أن حوالي 70 إلى 90% من الذين احتجزهم التحالف الدولي بقيادة أمريكا في عام 2003 اعتقلوا “عن طريق الخطأ”. ويشير تقرير صادر عن “هيومن رايتس ووتش”، في 25 من أيلول 2023، إلى أنهم لم يجدوا أي دليل على أن الحكومة الأمريكية قدمت أي تعويضات أو سبل انتصاف أخرى أو أي شكل من أشكال جبر الضرر لضحايا انتهاكاتها، كما أنهم لم يتمكنوا من إيجاد أي مسار قانوني لرفع دعوى للحصول على تعويض لطالب المجلي، وهو من ضحايا انتهاكات الاحتلال الأمريكي في سجن “أبو غريب”، واحتُجز خلال الفترة الممتدة بين تشرين الأول وآذار 2005، وأُطلق سراحه دون توجيه أي تهمة. والمجلي هو أحد الأشخاص الذين ظهروا في إحدى الصور التي انتشرت لمجموعة من السجناء، بعد أن أجبروهم على التعري ووضعوا على رؤوسهم أكياسًا وكدسوهم فوق بعضهم على شكل هرم بشري، وظهر خلفهم جنديان أمريكان وهما يبتسمان.

وحاول بعض الضحايا الحصول على تعويضات وفق “قانون المطالبات الأجنبية“، المعني بالأضرار التي يقوم بها عسكريون أمريكيون وتؤدي إلى وفاة أو إصابة أو ضرر لحق بممتلكات نتيجة “أنشطة غير قتالية أو إهمال أو أفعال غير مشروعة أو إغفال”، وقد نص القانون على استثناء دفع أي تعويضات إذا كان الضرر ناتجًا عن “أعمال نفذها العدو أو قوات أمريكية منخرطة في نزاع مسلح أو في طور الاستعداد لنزاع مسلح وشيك“، وعليه، فمن أصل 506  مطالب وثقت في عام 2007، لم يحصل سوى ضحية واحدة على مبلغ 10 آلاف دولار أمريكي لأنه احتجز بشكل غير قانوني في العراق، فبالإضافة إلى النص القانوني المحكم في حماية العسكريين الأمريكيين وقادتهم خلال انخراطهم في النزاعات حول العالم، يشترط القانون تقديم الطلبات خلال سنتين من ارتكاب الجناة للانتهاك.

تستند وزارة العدل الأمريكية في رفض دفع تعويضات للضحايا العراقيين الذين تم احتجازهم في سجن “أبو غريب” وغيره من السجون التي خضعت للقوات الأمريكية إلى قانون يعود إلى عام 1946، يوفر الحصانة لقواتها وللشركات الأمنية الخاصة التي تستأجرها خلال الحروب التي تخوضها، مثل شركتي “كاسي إنترناشونال” (CACI International Inc) و”بريمير تكنولوجي”  (Premier Technology, Inc) اللتين استأجرتهما لاستجواب المعتقلين العراقيين، واللتين شاركتا في أعمال تعذيب وانتهاكات أخرى، فمثلًا، نجحت شركة “مركز التحليل الموحد” (CACI) في دفع المحكمة إلى رفض النظر في قضية سهيل الشمري (اعتقل أيضًا في “أبو غريب” وتعرض للتعذيب) وآخرين 20 مرة منذ عام 2008، إلى أن نجح مركز “الحقوق الدستورية الأمريكي” الذي يمثل ثلاث ضحايا تعذيب عراقيين، في 15 من نيسان من هذا العام، في دفع محكمة اتحادية في ولاية فرجينيا للنظر في القضية.

يشجع تفشي سياسات الإفلات من العقاب دوليًا الأنظمة الشمولية كالنظام السوري مثلًا، على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وابتكار وسائل تعذيب وضروب متنوعة من المعاملة القاسية واللاإنسانية في مراكز السجون ومراكز الاحتجاز العلنية والسرية التي كشفتها التوثيقات المستمرة لمنظمات حقوق الإنسان السورية والدولية وشهادات المعتقلين والمعتقلات، وتشكل الصور التي سربها العسكري المنشق والمعرف باسم “قيصر” نموذج رعب حقيقي لواقع الحال في السجون السورية وأثر ذلك على أسر المعتقلين والمعتقلات وعلى المجتمع بشكل عام.

والسؤال الذي يطرح نفسه في ظل النظام الدولي الحالي عن مصير جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات المشاريع الإمبريالية وتمددها وهيمنتها على دول أخرى، كالمشروع الأمريكي والإيراني والتركي والروسي والصهيوني وغيرها من المشاريع، وما مصير العدالة وسبل المساءلة وكشف الحقيقة وجبر الضرر للضحايا وأسرهم في ظل قانون دولي صاغته القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وحصنت نفسها وشركاءها من المساءلة، ودعمت الأدوار الوظيفية لاستبداديي المنطقة كوكلاء مطيعين.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة