عنب بلدي – هاني كرزي
“لم يعد ابني يخرج من الخيمة بسبب انزعاجه من شكله”، بحرقة وصفت “أم محمد السيد”، من قاطني مخيم “عائدون” بريف إدلب، حال طفلها يحيى الذي تشوّه وجهه بعد احتراقه بمدفأة الحطب الشتاء الماضي، ما سبّب له أزمة نفسية وصلت به إلى حد الانعزال عن الآخرين.
تسببت الحرب في سوريا بتعرض آلاف الأشخاص بينهم أطفال لإعاقات وتشوهات، ويشير تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عام 2022، إلى أن 28% من السوريين هم من ذوي الإعاقة.
وتشمل هذه النسبة الإعاقات الذهنية والنفسية، التي نجم معظمها عن الإصابة الجسدية أو نتجت عن ظروف الحرب التي عاشها هؤلاء.
وجع مضاعف
الطفل يحيى السيد (9 سنوات)، اعتاد اللعب مع أصدقائه في أرجاء مخيم “عائدون” بخربة الجوز غربي إدلب، قبل أن يأتي الشتاء ويحوّل حياته إلى كابوس.
10 من كانون الأول 2023، تاريخ أسود عالق في ذاكرة “أم محمد السيد”، ففي ذلك اليوم كانت تحاول إشعال مدفأة الحطب لتخفيف البرد عن أطفالها الثلاثة، وبعد أن أوقدت المدفأة طلبت من ابنها يحيى أن يتأكد من اشتعالها ريثما تتفقد هي الطبخة، وفي تلك اللحظة انفجرت المدفأة في وجهه متسببة باحتراقه وتشوهه بالكامل.
قالت “أم محمد السيد” (45 عامًا) لعنب بلدي، “لا أنسى ذلك اليوم، حين انفجرت المدفأة في وجه يحيى، وبدأ يصرخ من الألم، وبعد لحظات ظهرت التشوهات على وجهه، صرخت من الفزع، ولم أعرف ماذا أفعل حيث كان زوجي حينها خارج المخيم، نقلت يحيى بمساعدة الجيران إلى أقرب نقطة طبية، التي اكتفت بتقديم الاسعافات الأولية له لا أكثر، بينما أخبروني أن التشوهات في وجهه ستبقى طويلًا وربما لا تختفي أبدًا”.
أضافت “أم محمد” أنه وبعد أيام من الحادثة، خرج يحيى للعب مع أصدقائه وسط المخيم كما اعتاد كل يوم، لكنه صُدم بنفورهم منه بعدما شاهدوا شكل وجهه المشوّه، ورفضوا إشراكه معهم في لعبة الكرة.
وتابعت، “عاد يحيى مسرعًا للخيمة وهو يبكي، وقال لي لا (أريد أن ألعب مع أحد، الكل يسخر من شكلي)”.
حاولت “أم محمد” رفع معنويات طفلها، وتشجيعه على الخروج من الخيمة للعب مع الأطفال، لكنه لم يقبل، وكان يكتفي بالوقوف على باب الخيمة لدقائق ثم يعود للدخول إليها، حتى إنه أصبح قليل الطعام والكلام، وبات يفضل الجلوس لوحده طويلًا.
تابعت “أم محمد” حديثها وهي تبكي، “وجعي مضاعف، فمن جهة أشعر بالألم وتأنيب الضمير لأني أعتبر نفسي المسؤولة عما حصل لطفلي، ومن جهة أخرى أتوجع بشدة لأني لا أملك المال لإجراء عملية تجميلية لوجهه، ومن جهة ثالثة، أشعر بالوجع لأجل يحيى الذي يمر بحالة نفسية صعبة بسبب عدم تقبله لشكله ونفور أصدقائه منه”.
تنمر على الشكل
التشوهات التي تصيب الأطفال قد تكون بسبب حدث مفاجئ تعرضوا له، كما حصل مع يحيى السيد حين تشوه وجهه بعد احتراقه بالمدفأة، أو نتيجة مشكلة خلقية منذ الولادة، كحال آلاء مسطو (11 سنة)، التي تعاني من مشكلة الشفة المشقوقة والشق الحلقي.
أصبحت أكره النظر في المرآة، حتى أصدقائي يسخرون مني في المدرسة، كل ذلك لا لذنب ارتكبته، بل فقط لكوني وُلدت بتشوّه خلقي.
آلاء
طفلة (11 عامًا)
قالت آلاء، وهي من أهالي حي الثورة بمدينة إدلب، إنها تبكي كلما نظرت إلى نفسها في المرآة، مضيفة، “أصبحت أكره النظر في المرآة، حتى أصدقائي يسخرون مني في المدرسة، كل ذلك لا لذنب ارتكبته، بل فقط لكوني وُلدت بتشوّه خلقي”.
تعاني آلاء من نعت زملائها في المدرسة لها بـ”القبيحة”، وتجنبهم اللعب معها، مضيفة أنها لم تعد ترغب بالذهاب إلى المدرسة، “لكن والدتي كانت تحاول رفع معنوياتي”، بحسب قولها.
موقع “مايو كلينيك” الطبي يقول إن الشفة المشقوقة والحنك المشقوق هي فتحات أو انشقاقات في الشفة العليا أو سقف الفم (الحنك) أو كليهما، وتحدث تلك المشكلة الخلقية عندما لا تلتحم أنسجة الوجه عند أحد الأجنة بشكل كامل، مشيرًا إلى أن الشفة المشقوقة والحنك المشقوق من التشوهات الخلقية الأكثر شيوعًا بين الأطفال.
ويواجه الأطفال الذين يولدون بهذه الحالة طريقًا صعبًا جسديًا ونفسيًا، فقد يؤثر ذلك الشق على طعامهم وسمعهم وكلامهم وتنفسهم، ما يمنعهم من الاندماج في مجتمعاتهم، والحصول على التعليم، أما من الناحية النفسية فقد يتعرضون للتنمر في المدرسة ومحيطهم.
قال فهد مسطو، والد الطفلة آلاء، لعنب بلدي، “نشعر بحزن عميق بداخلنا لما تعانيه ابنتي من تنمر ووجع نفسي بسبب شكلها، لكن لم يكن بوسعي سوى تقديم شكوى للمدرسة لضبط التنمر من قبل الطلاب على ابنتي، لكن الأمر استمر، فقررت نقلها لمدرسة أخرى، إلا أنها عانت مجددًا من التنمر”.
أضاف فهد الذي يعمل ميكانيكيًا في المنطقة الصناعية، أن الحل الجذري هو إجراء عمل جراحي، “لكن الفقر العقبة الأساسية التي تحول دون قدرتنا على إخراج آلاء من الأتون المظلم الذي تعيش فيه”.
معالجة التشوه الخلقي لدى آلاء يتطلب إجراء عمليتين تجميليتين، الأولى لأنفها الذي يحتاج إلى زراعة غضروف في مقدمته، والثانية لشفتها العليا والمنطقة التي تعلوها، ما يكلف حوالي 5 آلاف دولار، “وهو مبلغ ضخم لا أملك 1% منه، لذا نشكو أمرنا لله تعالى”، حسب قول والد الطفلة.
علاج مزدوج
تقضي الطفلة روبينا (8 سنوات) ساعات أمام المرآة وهي تنظر إلى وجهها، حيث يوجد على خدها “وحمة” كبيرة منذ الولادة على شكل حبة خوخ، ما سبب لها أزمة نفسية.
قالت والدة روبينا من سكان جرمانا بريف دمشق، إنها تشعر بالخوف على ابنتها من تدهور وضعها النفسي، إذ تلاحظ أنها تتفحص شكلها في المرآة أو النوافذ أو على كاميرا هاتفي المحمول باستمرار، ودائمًا ما تسأل الآخرين عن مظهرها، وفي آخر سنتين أصبحت تفضّل الجلوس لوحدها، وترفض رؤية أحد من الأصدقاء والأقارب.
أضافت والدة روبينا وهي ربة منزل، أن حالة ابنتها تفاقمت منذ دخولها إلى المدرسة، حيث بدأ بعض أصدقائها بالتنمر عليها، إذ ينادونها بـ”أم خوخة”، ما جعلها تدخل في حالة اكتئاب.
تابعت الأم نقلًا عن طفلتها، “قالت لي إنها أصبحت تكره شكلها وتكره المدرسة وتكره كل الناس”، مضيفة، “في إحدى المرات صرخت بوجهي قائلة، أكرهك لأنك أنجبتني مشوّهة”.
وتابعت والدة روبينا لعنب بلدي، أنها تجد العذر لابنتها لأنها هي ذاتها تستغرب شكل طفلتها، مضيفة، “لكني أخشى عليها أن تفكر في الانتحار حين تكبر أكثر”.
وفي هذا السياق، قال اختصاصي الأمراض النفسية، الدكتور جلال نوفل، لعنب بلدي، إنه “ربما يكون الأهل غير متقبلين شكل طفلهم الذي يعاني من تشوه ما، فكيف سيساعدونه على تقبل مظهره، وهذا يعني أن الوالدين سيحتاجان إلى جلسات دعم نفسي أيضًا إلى جانب الطفل، لأنهما ربما يكونان يعانيان من مشكلات عميقة داخلهما بسبب حالة طفلهما، وبالتالي فإن تلقيهما الدعم النفسي سيساعدهما في رفع معنويات ابنهما وجعله يتجاوز مشكلة عدم تقبل ذاته”.
مفتاح العلاج الأساسي
في ظل التأثيرات الكبيرة التي يواجهها الأطفال بسبب عدم رضاهم عن شكلهم، نتيجة تعرضهم لتشوه أو عيب خلقي، نصح الاختصاصي الأسري سامح قجي الأهل باتباع عدة خطوات لمساعدة أطفالهم على التغلب على تلك المحنة، وتعزيز ثقتهم بنفسهم التي تعتبر مفتاح العلاج الأساسي لهؤلاء الأطفال.
وقال قجي لعنب بلدي، إنه في حال وجود أي تشوّه خلقي لدى الطفل، يجب أن تذكر الأم له قصص نجاح ملهمة لمن حُرموا الكثير من النعم، كنعمة البصر، أو تعرضوا لإعاقات وتشوهات خلقية، ومع ذلك زادهم الأمر إصرارًا وعزيمة للتغلب على العقبات وتحقيق النجاح، مع التأكيد للطفل أن بإمكانه فعل ذلك أيضًا، وأنه لا ينقصه شيء وما يشعر به إنما هو مجرد وهم لا أساس له من الصحة.
وأضاف قجي أن التشوهات لدى الطفل قد تجعله يتجه نحو الانعزال عن الآخرين، لذا يجب على الأبوين تعليمه أن يكون اجتماعيًا ويكوّن صداقات تدعمه نفسيًا، وهذا سيؤدي بشكل مباشر إلى أن يصبح الطفل طبيعيًا، ويتقبل شكله وصفاته بكل ما فيها من مميزات أو عيوب، إضافة إلى تعليمه ألا يعطي أذنه للمتنمرين عليه، لأن التنمر يجعل الطفل يشعر بالإحباط والاكتئاب ويكره شكله.
كما يجب على الأبوين ألا يغفلا ما تسببه مواقع التواصل الاجتماعي من تذبذب الثقة لدى الطفل، خاصة فيما يتعلق بمعايير الجمال، ويجب أن يوضح الأهل له طيلة الوقت كيف يتم التلاعب في الصور، بحيث يظهر أي طفل بمنتهى الجمال مهما كانت لديه من تشوهات، حينها سيستعيد الطفل ثقته بنفسه، ويتوقف عن مقارنة شكله ببقية أقرانه الذين يشاهدهم على “السوشال ميديا”.
على الأبوين ألا يغفلا ما تسببه مواقع التواصل الاجتماعي من تذبذب الثقة لدى الطفل، خاصة فيما يتعلق بمعايير الجمال، ويجب أن يوضح الأهل له طيلة الوقت كيف يتم التلاعب في الصور، بحيث يظهر أي طفل بمنتهى الجمال مهما كانت لديه من تشوهات، حينها سيستعيد الطفل ثقته بنفسه، ويتوقف عن مقارنة شكله ببقية أقرانه الذين يشاهدهم على “السوشال ميديا”.
سامح قجي
اختصاصي أسري
ونصح قجي الأم بأن تبتسم دومًا في وجه ابنها الذي لديه أي تشوه، وتشعره بأنه أجمل طفل في العالم، وأن تلتقط له الكثير من الصور وبكل الهيئات والأشكال، وتكتب على كل صورة عبارات جميلة، كما يفضّل أن تمتدح ملامحه وقوامه أمام الآخرين، فلا يكفي أن تمتدحه بينها وبينه فقط، فهذا يعزز ثقته بنفسه وبشكله أكثر.
بدوره، ذكر موقع “كيدز هيلث” (Kidshealth)، أن الأطفال الذين يعانون تدني الثقة بأنفسهم، يعتقدون أن الآخرين لن يقبلوهم ولن يرضوا بانضمامهم إليهم، وقد يعرضهم ذلك لسوء المعاملة ويواجهون صعوبة في الدفاع عن أنفسهم، ويستسلمون بسهولة لأي انتقاد لشكلهم، إضافة إلى ذلك، فهم يجدون صعوبة في التأقلم عندما يرتكبون خطأ أو يخسرون أو يفشلون.