الديمقراطية المركزية

  • 2024/07/21
  • 12:29 م
الكاتب السوري إبراهيم العلوش

الكاتب السوري إبراهيم العلوش

إبراهيم العلوش

تمت انتخابات مجلس الشعب وفق المصطلح البعثي “الديمقراطية المركزية”، وأثبتت الانتخابات، التي أجريت في 15 من تموز الحالي بما تبقى من سوريا، أن تركة الأسد الأب لا تزال صالحة لإعادة إنتاج النظام الأسدي بوسائل تبدو عصرية.

يتلخص مفهوم الديمقراطية المركزية الذي كرسته المنطلقات النظرية لحزب “البعث” بإسناد دور الانتخابات للأجهزة الأمنية، من حيث اختيار المرشحين، وعملية الانتخاب، وإصدار النتائج التي تكون معدة سلفًا وفق خوارزميات أمنية ومنفعيّة طوّرها النظام خلال مختلف المراحل التي مر بها، ومرت بها البلاد، منذ انقلاب “البعث” وهيمنة العسكر على الحياة المدنية، مرورًا بأحداث الثمانينيات وسيطرة المخابرات على العسكريين وعلى المدنيين، وصولًا إلى هيمنة إيران وروسيا على النظام ومخابراته وعسكرييه ومدنييه، وكل تركة قادته الذين ساقوا البلاد إلى هذا المصير التراجيدي.

ومثل مجلس صيانة الدستور الإيراني، فإن المرشحين تتم غربلتهم حسب درجة الخضوع، وحسب الخدمات التي قدموها للنظام، وكانت “الجبهة الوطنية التقدمية” جهازًا شديد الشبه بالمؤسسة الإيرانية مع فارق الأيديولوجيا الدينية، التي تقابلها في سوريا الأسد أيديولوجيا عبادة القائد.

لكن المؤسسات “البعثية” تطورت في أعمال إعادة تأهيل المفاهيم الديمقراطية وإعطائها نكهة خاصة، إذ شهدت الانتخابات الأخيرة حرية الإدلاء بالصوت أكثر من مرة، وفي أكثر من مركز انتخابي، وهذا ما ابتكرته أجهزة المخابرات في أحداث الثمانينيات الدموية، إذ إن جموع المظليين، وعناصر اتحاد الطلبة، واتحاد الفلاحين، والعمال، والاتحاد النسائي، كانت تطوف على المراكز الانتخابية وتعيد التصويت كل مرة للتأكيد على حرية الانتخاب وبلا حدود!

الآلة الانتخابية في نظام الديمقراطية المركزية استمرت رغم خروج نصف البلاد عن سيطرة النظام، فالإنكار أهم خصائص هذا النظام.

فالحرية موجودة رغم وجود عناصر المخابرات ووسائل تعذيبهم في كل زاوية.

والتعددية موجودة رغم ثبات القائد في منصبه الذي لا يغادره إلا إلى القبر.

ومحاسبة الفاسدين موجودة رغم إفلاس البلاد وانتشار الجوع والبؤس فيها.

والسيادة موجودة رغم مختلف أنواع الاحتلالات التي تلون خريطة سوريا.

والملكية الشخصية مصونة رغم قرارات الحجز على أملاك الناس في كل أنحاء البلاد، وآخرها في بلدة زاكية.

والقانون موجود رغم نجاح أمراء الحرب في الانتخابات وازدهار صناعتهم وتجارتهم عبر تصنيع وتصدير “الكبتاجون”!

الصناديق الانتخابية وصلت إلى مراكز الفرز وخرجت نتائجها رغم حرق الصناديق في السويداء ودرعا، ومنع وصولها في الجزيرة وشرق الفرات، وفي إدلب والشمال السوري، والأعداد التي أدلت بأصواتها كبيرة رغم انعدام وجود الصناديق في أماكن اللجوء خارج البلاد.

المكسب الشعبي الذي حصل في هذه الانتخابات أن أمراء الحرب لديهم كثير من المال، واشتروا أصوات الجائعين بأموالهم التي كسبوها من “التعفيش” ومن صناعة “الكبتاجون”، وتراوح سعر الصوت بين 25 ألفًا و150 ألف ليرة، حسب درجة ثراء المرشح الذي يخوض في وحول الديمقراطية المركزية.

عند وصول اللاجئين السوريين إلى أوروبا، كان أحد أشهر الأسئلة التي يسألها بعض الأوروبيين من أبناء القرى البعيدة، لماذا انتخبتم الأسد أو النواب الذين يؤيدونه؟

كان السؤال صادمًا، وكأنك تجد نفسك واقفًا على حافة جرف قاري، وللوهلة الأولى يبدو السؤال منطقيًا، لكن سرعان ما تخطر على بالك أدوات الديمقراطية المركزية الممثلة بالأمن العسكري، والجوي، والسياسي، وأمن الدولة، والحرس الجمهوري، والفرق العسكرية، ورفعت وماهر الأسد، وعبد الله الأحمر وعلي زيود ومصطفى العايد وصابر فلحوط وعلي عقلة عرسان وعلى دوبا، وآل مخلوف وآل شاليش، وصوت عبد الرحمن آل رشي وعلي الديك، وأوسمة مصطفى طلاس، وقفزات علي حيدر من فوق العربة العسكرية ليؤدي التحية لحافظ الأسد المتمسك بملامحه الجامدة، وفتاوى أحمد حسون، وتعابير وجه بثينة شعبان التي اقتنصتها من الأسد الأب، وابتسامات نجاح العطار وبلاغة مروان شيخو، وآلاف أغاني الإذاعة والتلفزيون عن “أبو سليمان” و”أبو باسل”، وفرق الدبكة الرسمية وإبداعات عيسى أيوب وسهيل عرفة في أغاني “البعث”.

وسرعان ما يلحقهم اتحاد الفلاحين والشاحنات التي يزحف بها على المدن في المناسبات القومية، واتحاد العمال والاتحاد النسائي، واتحاد الطلبة، واتحاد شبيبة الثورة، وهتافات طلائع البعث، والميليشيات الإيرانية وشبيحة الدفاع الوطني، والكتائب البعثية المسلحة، وحملة المسدسات الذين هبطوا من الجبال وزحفوا كالجراد على السهول من أجل أن يهدموا المدن العامرة، والمخبرون الذين كتبوا ملايين الصفحات المليئة بالوشايات الكاذبة، ومعتنقو نظريات المؤامرة الكونية، وفجأة يتدفق عناصر وعشاق هذه المكونات أمامك حاملين بنادقهم وعصيهم ولافتاتهم وأحقادهم، رافعين هتافاتهم إلى عنان السماء!

عندها تجد الجواب واضحًا، ولكن مستوى اللغة الأجنبية التي تعلمتها حديثًا في بلد اللجوء لا يسعفك في أن تشرح للمتسائل هذا المفهوم السياسي المعقد الذي اسمه الديمقراطية المركزية!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي