القتل، الاعتقال، الخطف، الإخفاء، جرائم وانتهاكات ارتكبها تنظيم “الدولة” خلال سيطرته على مناطق واسعة من سوريا والعراق بين عامي 2014 و2019، استطاع خلال هذه السنوات إخفاء جثث آلاف الضحايا دون معرفة هويتهم.
خلّف التنظيم العديد من المقابر الجماعية، عملت منظمات محلية ودولية على انتشال الجثث منها وتوثيق أعدادها، ومنها مقبرة بئر علو عنبر في العراق التي بدأت أعمال البحث فيها في 13 من أيار الماضي، وأُعلن، في 14 من تموز الحالي، عن انتشال 139 جثة منها.
لم تقتصر عملية تخلص التنظيم من الجثث على دفنها في مقابر جماعية، بل استخدم حفرًا جيولوجية (حفر تشكلت بفعل عوامل طبيعية) للتخلص منها وأحيانًا رمي الشخص بداخلها ما يسبب وفاته بسبب عمقها.
رصدت عنب بلدي ثلاث حفر استخدمها التنظيم كمقابر في سوريا والعراق خلال فترة سيطرته التي بدأت في العراق عام 2014 وانتهت في 2017، أما في سوريا فانتهت في 2019.
الحفر هي “بئر علو عنتر” و”الخفسة” في محيط مدينة الموصل شمالي العراق، و”الهوتة” بمحافظة الرقة شمالي سوريا.
ولم يتوقف إلقاء الجثث في حفرتي “الخسفة” في العراق و”الهوتة” في سوريا بعد انسحار سيطرة التنظيم، وسيطرة قوات أخرى على تلك المناطق.
“بئر علو عنتر”
“بئر علو عنتر” إحدى الحفر الطبيعية التي حولها التنظيم إلى مقبرة، ويقع بمدينة تلعفر غرب مدينة الموصل في العراق بـ70 كيلومترًا.
عمق الحفرة يصل إلى 42 مترًا، انتشلت الفرق العراقية جثث 139 شخصًا حتى الأحد 14 من تموز.
لا يعرف عدد الجثث الملقاة فيها حتى الآن، فيما لا يزال البحث جاريًا لانتشال المزيد من الجثث.
بدأت أعمال البحث في الموقع منذ 13 من أيار الماضي، بتنسيق بين “مؤسسة الشهداء” (مؤسسة حكومية مكلفة بالعثور على المقابر الجماعية والتعرف على الرفات)، وكوادر دائرة الطب العدلي وخبراء فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة لتعزيز المساءلة عن جرائم التنظيم (يونيتاد).
“مؤسسة الشهداء” في العراق، هي مؤسسة حكومية مكلفة بالعثور على المقابر الجماعية والتعرف على الرفات.
قال مدير قسم المقابر الجماعية في “مؤسسة الشهداء”، ضياء كريم، إن الجثث التي تم انتشالها تعود لإيزيديين وتركمان شيعة وبعض سكان الموصل الذين كانوا ضمن القوات الأمنية.
وأضاف كريم أن مقتل الضحايا يعود إلى فترة سيطرة تنظيم “الدولة” (بين عامي 2014 و2017)، والضحايا لم يدفنوا في الحفرة، إنما ألقوا فيها، وقُتلوا بالرصاص أو ذبحًا، وعثر على بعضهم في أكياس.
“الخسفة”.. محاولات إخفاء لم تنجح
“الخسفة” أو “الخفسة” كما تُعرف محليًا تقع على بعد نحو 20 كيلومترًا جنوب مدينة الموصل (مركز محافظة نينوى شمال العراق)، قطرها حوالي 35 مترًا، لكن لا يعرف عمقها بالتحديد.
وتعد إحدى أكبر المقابر الجماعية التي استخدمها التنظيم في التخلص من الجثث وتغييبها.
وهي عبارة عن عن حفرة كبيرة تنتهي بنهر من الكبريت، تعرضت لعمليات هدم وردم من قبل التنظيم تؤكدها وثائق وصور وخرائط جوية تؤرخ لعمليات الدفن وتاريخها، بحسب مدير قسم المقابر الجماعية في “مؤسسة الشهداء”، ضياء كريم.
لا توجد إحصائية لعدد الأشخاص أو الجثث التي ألقيت داخلها، لكن هناك تقديرات صدرت عن جهات حكومية عراقية، وتحدث السكان عن استخدامها لعدة سنوات من قبل التنظيم.
قال سكان قرى قريبة من الخفسة لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية، إنهم شاهدوا عناصر من التنظيم في 10 من حزيران 2014، أنزلوا من أربع شاحنات أشخاصًا أعدموهم رميًا بالرصاص، وسقطت جثثهم في الحفرة، بحسب ما ورد في تقرير لها تحدثت فيه عن المقبرة.
موقع “الجزيرة نت” نقل عن مستشارة “المركز العراقي لتوثيق جرائم الحرب”، فاطمة العاني، أن التنظيم خلال سيطرته على الموصل (من حزيران 2014 إلى 10 من تموز 2017) “نشر أسماء أكثر من 2070 مدنيًا قتلوا ورمى جثثهم فيها”.
وأضافت العاني أنه بعد استعادة المنطقة من التنظيم، حدثت مجازر جديدة بحق المدنيين من قبل مجموعات مسلحة، وألقيت جثثهم في الحفرة، و”لم تقم الحكومة بالكشف عن هؤلاء الضحايا وانتشال رفاتهم أو تعويض ذويهم”.
وفي عام 2022، قال نائب محافظ نينوى السابق، حسن العلاف، لموقع “الجزيرة”، إنه ألقي في الحفرة ما يقارب 4 آلاف جثة لمدنيين وعسكريين خلال سيطرة التنظيم.
ولم تشهد “الخسفة” محاولات لانتشال الجثث لصعوبات مالية وفنية، لكن جرى تقديم مقترحين لذلك، بحسب مدير قسم المقابر الجماعية في “مؤسسة الشهداء”، ضياء كريم.
الأول، “الاكتفاء بجمع الرفات الموجود على جانب المقبرة، فيما يخلد باقي الرفات وفق بانوراما ونماذج معينة نظرًا لصعوبة فتحها”.
الثاني، مشاركة أكثر من جهة طبية ومدنية وعسكرية ، لكن ذلك يحتاج إلى عمل لمدة 5 سنوات على أقل تقدير، كما أن طبقات التربة في الحفرة معرضة للانهيار في حال رفع الأتربة.
تعرضت “الخسفة” لمحاولتي ردم آخرها عام 2022، من قبل جهات مجهولة، علمًا أن المنطقة تنتشر فيها قطع عسكرية للجيش العراقي و”الحشد الشعبي” و”الحشد العشائري”.
المحاولة الأولى كانت من قبل التنظيم قبل انسحابه، باستخدام كميات من الرمال وحاويات الحديد المستخدمة بشحن البضائع.
“الهوتة”.. متنزه تحول إلى مقبرة
تقع حفرة “الهوتة” شمال مدينة الرقة شمالي سوريا، وكانت توفر “ملاذًا رائعًا من السهول الجافة شمال الرقة، ومكانًا للنزهات العائلية”، بحسب وصف مدنيين من أبناء المنطقة.
وفي أيار 2020، أصدرت منظمة “هيومن رايتش ووتش”، تقريرًا عن استخدام تنظيم “الدولة” حفرة “الهوتة” كموقع للتخلص من جثث الأشخاص الذين اختطفهم أو احتجزهم خلال سنوات سيطرته بين عامي 2014 و 2017.
ولا يعرف عدد الجثث الملقاة في “الهوتة”، إذ لم تقم أي فرق بالتنقيب والبحث عن الرفات.
تضمّن تقرير المنظمة مقابلات مع سكان محليين، ومراجعة لمقاطع فيديو سجّلها عناصر التنظيم، وتحليلًا لصور ملتقطة بالأقمار الصناعية، وتوجيه طائرة من دون طيار إلى الحفرة التي يبلغ عمقها 50 مترًا.
وتشير الخرائط الجيولوجية والنموذج الطبوغرافي الثلاثي الأبعاد للحفرة، الذي أُعد بحسب صور الطائرات من دون طيار، إلى أن “الهوتة” أعمق مما كانت الطائرة قادرة على رؤيته، لذلك من المرجح وجود رفات بشرية تحت سطح المياه.
ولم ينتهِ استخدام “الهوتة” كمكان لرمي الجثث بانتهاء سيطرة تنظيم “الدولة” على المنطقة، بحسب ما رود في تقرير “هيومن رايتس ووتش”، إذ رصدت طائرة فريق المنظمة صورًا لست جثث تطفو على سطح الماء في قاع الحفرة.
وبناء على حالة تحلّل الجثث، يرجح التقرير أنها أُلقيت هناك بعد وقت طويل من مغادرة تنظيم “الدولة” المنطقة.
وتخضع المنطقة منذ 2017 لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من التحالف الدولي.