هذه ليست تركيا

  • 2024/07/14
  • 1:37 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

عندما يضع مسؤول بناء في إحدى المدن الهولندية إعلانًا في لوحة إعلانات البناء السكني، يحث فيه القاطنين على إبلاغه بأي سلوك عنصري ضد أي أجنبي من القاطنين قد يصدر عن أحد جيرانه ليقوم هو باتخاذ ما يلزم من إجراءات تجاه هذا السلوك العنصري، ويختم إعلانه بعبارة “هذه ليست تركيا، هذه هولندا”، فهذا يعني أن الفضيحة والوصمة العنصرية التي وصم بعض الأتراك بلدهم فيها بسلوكهم العدائي تجاه الأجانب وخاصة السوريين منهم، قد بلغت مبلغًا كبيرًا وعمت آثارها وارتداداتها جوانب الأرض الأربعة، وصارت محلًا للتندر والسخرية، وهو، طبعًا، شيء ليس في مصلحة تركيا والأتراك.

هذه ليست تركيا، صحيح، فتركيا التي أتينا إليها قبل 12 عامًا غير تركيا الآن، فما نراه ونسمعه ونعايشه في تركيا الحالية يدفعك لهذا القول حقًا، حتى لا تكاد تصدق هل يعقل أن تركيا التي استقبل معظم شعبها السوريين، وبعضهم أثث لبعضهم بيوتًا يسكنونها، وتعامل معهم بكل تقدير لمحنتهم، هي نفسها تركيا اليوم التي قلب أكثر شعبها للسوريين ظهر المجن، وأخذ بعضهم يهاجم بعضهم ويعتدي عليهم ويحرق لهم ممتلكاتهم ومساكنهم ويتهمهم زورًا وبهتانًا ليرحّلهم إلى بلدهم، بحق وبغير حق!

هذه ليست تركيا، فلطالما كانت تركيا دولة ملجئة، ولطالما فتحت أبوابها وذراعيها للقادمين إليها هربًا من جحيم الظلم والقهر، فاستقبلت الوافدين إليها من القوقاز والقرم والبلقان والبوسنة والإيغور وكوسوفو وليبيا واليمن، وبطبيعة الحال العراقيين والسوريين، حتى صارت مسألة إيواء الفارين إليها جزءًا من الضمير الجمعي العام، فلماذا يتبدل المشهد وتنهار تلك القيمة المجتمعية الراقية؟

هذه ليست تركيا، التي ما سمعنا فيها كلامًا عنصريًا بحقنا حتى قبل بضع سنوات مضت فقط، بينما تنضح وتطفح اليوم وسائل التواصل فيها بجرعات زائدة من العنصرية الكريهة ضد السوريين وعموم العرب في الكثير من الأحيان.

ما الذي حصل وما الذي تغير حتى صار المشهد بهذه القتامة بالنسبة لكل سوري فيها، وهل من المفيد والمجدي إعادة تكرار وتفنيد القول بالأرقام إن السوريين ليسوا عبئًا اقتصاديًا على تركيا، وأن ما أنفقته الحكومة التركية على السوريين ليس من بينه دولار واحد من خزائن الدولة المضيفة. ولماذا تراخت الحكومة ابتداء عن لجم جماح ذلك الخطاب العنصري بحق السوريين، حتى وصلنا إلى أن يتجرأ هؤلاء الرعاع المتطرفون على قتل السوري، هكذا بلا سبب سوى أنه سوري، وحتى وصلنا إلى تلك المشاهد المرعبة التي عاشها السوريون في قيصري وأنطاليا وغازي عينتاب وهاتاي وقونية!

واقع الحال يشي بأن التعاطي الحكومي مع ملف اللاجئين السوريين تبدل تمامًا منذ منتصف العام 2019، وظهرت تبدياته في أولى حملات الترحيل العشوائية التي انطلقت في ولاية اسطنبول عقب خسارة حزب “العدالة والتنمية” لبلديتي اسطنبول وأنقرة بالانتخابات البلدية التي تمت آنذاك، والتي تخلل حملاتها الانتخابية إطلاق أول التصريحات العنصرية التي استخدمها بعض رموز الأحزاب المعارضة، والتي اتخذت بعد ذلك منحى تصاعديًا وصولًا للحظة التي وقعت فيها أحداث قيصري الأخيرة، دون أن يكون مستوى التعاطي الحكومي مع هذا الخطاب والاستجابة القانونية لمواجهته مكافئًا لوتيرته المتصاعدة ومؤشراته الخطيرة.

والحقيقة أن التعاطي الحكومي كان غير مبالٍ، على الرغم من التنبيهات والتحذيرات من مخاطر التهوين من هذا الخطاب وآثاره، وعلى الرغم من المكاشفات الصريحة جدًا التي طالما قلناها في الكثير من اللقاءات الفردية والاجتماعات الرسمية بهذا الشأن، وعلى الرغم من عشرات التقارير الحقوقية التي صدرت عن منظمات حقوقية دولية وتركية، لكن كل ذلك مع الأسف لم يلقَ أي آذان مصغية، بل على العكس، كان كل ذلك يقابل بالإنكار والتبرير المتهافت الحجة.

اليوم، لم يعد السوريون يشعرون بتلك الطمأنينة التي غمرتهم عندما لجؤوا إلى تركيا واستقروا فيها، وبعضهم فضّل البقاء فيها على الرغم من أنه كان متاحًا له اللجوء في دول أوروبية بكل يسر وسهولة. السوريون اليوم قلقون ومتوترون، ولا يملكون أي يقين بشأن حياتهم ومستقبلهم هنا، خصوصًا مع التحولات السياسية الجذرية التي اتخذتها الحكومة التركية والمتعلقة بالملف السوري عمومًا، وبعلاقتها مع النظام الحاكم في دمشق، خصوصًا أن أولى النقاط على برنامج تطبيع العلاقات هي تلك المتعلقة بملف اللاجئين وضرورة عودتهم “الآمنة” إلى بلدهم.

معظم السوريين اليوم يعرضون ممتلكاتهم للبيع، وصفحات وسائل التواصل الاجتماعي تضج بالكثير من المعروضات وتصفيات المحال التجارية بداعي السفر، فقد أدركوا، متأخرين كثيرًا مع الأسف، أن تركيا لن تكون مستقرًا لهم، وأن وجودهم هنا صار على المحك، رغم كل المؤشرات التي كانت متاحة لهم لاستشعار مؤشرات وأضواء الخطر والموجبات التي تحثهم على البحث عن مواطن بديلة لهم.

المؤلم في هذا الأمر أن كل دول الإقليم وكأنها أصيبت بجائحة طرد اللاجئين السوريين، وإعادتهم قسرًا إلى بلدهم، الذي لا أحد بطبيعة الحال يكره أن يعود إليه بالحالة الاعتيادية الطبيعية، ولكن الكل يسأل نفسه إلى أين أعود؟ إلى سلطة بطشت بالناس ودمرت وقتلت واعتقلت وأفنت وهجّرت؟ أم إلى سلطة ميليشيات لا تقل سوءًا ووضاعة وإجرامًا عن النظام الذي تزعم أنها تعارضه!

صحيح أن تركيا لم تعِد السوريين أن تكون موطنًا بديلًا دائمًا لهم، وصحيح أكثر أنها وضعتهم طوال عقد كامل في وضع قانوني شديد الهشاشة للدرجة التي يمكن بكل بساطة أن يحيل حياتهم فيها إلى شيء معلق في الهواء لا استقرار ولا طمأنينة فيه، لكن من حق أي سوري اليوم أن يقول “هذه ليست تركيا”، وأن يشعر بسخونة النصل الذي غُرس في جسده، عندما يراها تغلق كل البوابات في وجهه وتصر على إعادته إلى الجحيم!

مقالات متعلقة

  1. صياح الديك.. أزمة العنصرية في تركيا
  2. الأغبياء فقط من يطلقون النار على أقدامهم
  3. الفتنة المصابة بالأرق
  4. استباحة السوريين

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي