إبراهيم العلوش
بداية تموز الحالي، أُطلق عرض فيلم “الأشباح” (Les Fantômes) للمخرج الفرنسي جوناثان ميله (Jonathan Millet)، وهو نفسه كاتب القصة، ويدور الفيلم الذي عُرض في مهرجان “كان” السينمائي هذه السنة، حول شاب سوري يطارد جلاده الذي يعيش معه في نفس المدينة الفرنسية ستراسبورغ.
يبدأ الفيلم بمشهد مؤثر عن طريقة إفراج نظام الأسد عن مجموعة من المعتقلين من سجن “صيدنايا”، حيث يعبرون في سيارة “زيل” عسكرية أراضي قاحلة ويتم رميهم وإطلاق النار فوقهم من أجل تشتيتهم، ولكنهم يبدون على حافة الموت من أثر التعذيب، وغير قادرين على استقبال لحظة الإفراج عنهم بفرح وسط حيرتهم وسط الأرض القاحلة المحيطة بهم، ويرتمي واحد منهم ميتًا في أول لحظات إطلاق سراحه.
من بين هؤلاء المعتقلين نتعرف إلى حميد، الذي يجسد دوره الممثل الجزائري الفرنسي آدم بيسا، إذ يصل إلى أوروبا ويعمل في ورشة بناء، ويسكن في غرفة بائسة تشاركه فيها الأشباح التي تملأ رأسه من فترة اعتقاله وتعذيبه، ولكنه لا يستسلم لتلك الأشباح، فما إن ينهي عمله ويبدل ثيابه حتى يحمل صورة جلاده، ويدور على مواقع استقبال اللاجئين علّه يجد خبرًا عنه، فقد أبلغته مجموعة ينتمي إليها أن جلاده حرفز ينتحل صفة لاجئ في نفس مدينته.
يمر على أحد مواقع الاستقبال، ونشاهد حالة البؤس والشك والخوف التي تلف عائلة سورية لاجئة، إذ يقول الأب إن الكثيرين هنا يعملون مخبرين لدى النظام، فالأشباح لا تزال تسكن مخيلة الأب المتشكك في شخصية حميد، وابنته يارا التي تجسد دورها الممثلة السورية حلا رجب، تسأله إن كان اسمه حقيقيًا أم مستعارًا، وتختبره للتأكد من مهنته عبر سؤال شعري يجيد الجواب عنه، لأنه كان أستاذًا جامعيًا في جامعة “حلب” يدرّس الأشكال الشعرية لطلابه.
يطارد حميد طيف جلاده، ولكنه يجد أثره أخيرًا في إحدى المكتبات الجامعية، فالجلاد يدرس الكيمياء ويحضر رسالة ماجستير في هذا المجال، وينكب على الدراسة وإتقان اللغة وبناء العلاقات والارتباط بعشيقة، بينما حميد لا يزال مسكونًا بأطياف التعذيب وطرقه التي خضع لها هو وأصدقاء يصفون له جلادهم المشترك حرفز.
في مطعم شرقي يلتقي الجلاد مع ضحيته، ويقدّم له الجلاد الذي ينتحل اسمًا مستعارًا مكانًا في المطعم المزدحم، ويتحدث له بود، ولكن حميد لا يرى فيه إلا كائنًا شبحيًا يخنقه طيفه كلما فكر بالماضي الذي مرّ به في السجن وطرق التعذيب التي كان حرفز يجيدها بشغف، بالإضافة إلى التجارب الكيماوية التي كان يجريها على المعتقلين، ولا ينسى الجلاد أن يقول للضحية في أثناء التعذيب إنه آسف على سلوكه، ولكن لا بد من ذلك!
خلية مطاردة الجلادين في أوروبا يتم تقديمها بطريقة مبتكرة عبر لعبة حرب إلكترونية يناقش فيها اللاعبون أفكارهم وخططهم، وتصوت الخلية التي ينتمي إليها حميد على الانتقام من حرفز مباشرة أو تقديمه إلى المحكمة عبر جهود صحفي فرنسي صديق. يفوز اقتراح المحاكمة بفارق صوت واحد بعد أن حاولت إحدى الضحايا ضرب الجلاد بسكين لتأخذ حقها بيديها، ولكن السكين تدخل في جسد حميد الذي يمنعها من الانتقام المباشر في مشهد مؤثر، وتقوم يارا بمداواة حميد، وتعامله بمودة ظاهرة في سلوكها، ولكنها تشاركه مطاردة الجلاد بسبب تكتمه، ولا تستطيع أن تزرع الحب في قلب حميد لأنه لا يزال مسكونًا بالأشباح.
الحضور الصوتي كان لافتًا في الفيلم، فقد كنا نسمع أصوات المعتقلين وزفراتهم بشكل متقن وهم ينقلون إلى الصحراء، وترافق ذلك مع تخفيف مدروس للظلام في السيارة، الظلام الذي يخلق فينا الحيرة ونحن نخمن ما هذه الأصوات وما وجهتها. ونجد هذا الإتقان عبر نقل زفرات حميد وأنفاسه بشكل يجعله قريبًا منا، وقد شرح المخرج طرق التقاط الصوت عبر زرع أجهزة الالتقاط على صدر حميد وعلى رأسه وعلى حنجرته، وقد وُفّق الفيلم في هذه الناحية ونقل مشاعر البطل بشكل مؤثر.
نجح دور حميد الذي حول المأساة السورية إلى مشاعر، وبيّن أن هذا الإنسان المعذب عميق في صدقه، وفي إرادته، وفي قدرته على الشفاء من الصدمة القاسية التي سببها التعذيب له.
ونجح الممثل توفيق برهوم الذي مثّل دور حرفز، وكان أداؤه متقنًا وموحيًا بخلفيته الإجرامية، ولكن الأشباح لا تلاحقه أبدًا، ولا يسترجع صور ضحاياه، ولا يحضر تاريخه إلا عبر تفقد معصم يده التي كان يستعمل بها الكابل الكهربائي في الجلد.
الفنانة حلا رجب أدت دورها بحس المحبة واللطف، ولكنها لم تأخذ دورًا أوسع، ولم تجسد مشاعر حبها بشكل أوضح، ولم تنقذ حميدًا بالحب، كما تم مع الجلاد الذي هرب من ماضيه بممارسة الجنس في الشقة بينما حميد يتلوى مع أشباحه في الممر المؤدي إلى شقة حرفز.
أم حميد التي تتحدث معه عبر الإنترنت كان حضورها جذابًا، وجسدت دور الأم بشكل مؤثر، وتحاول إنقاذ حميد من أشباحه وتنصحه بحب يارا، ولكنه لا يبدأ بالتعافي إلا في بيروت عندما يقابل شخصًا يبدي استعداده للشهادة ضد حرفز، ويشاهد أمه من بعيد، ويدفن ذكرى زوجته وابنته اللتين توفيتا بشكل مأساوي.
ثمة شخصيات كان لها حضور مؤثر، منها رئيس مجموعة مطاردة مجرمي الحرب السوريين، والمرأة الفرنسية التي تدعم حميدًا وتقدم له المساعدة، ومترجم اللجوء الذي جسد حالة إنسانية متعاطفة وخرج من بيروقراطيته، وبدا وجهه أشبه بلوحة بورتريه تعبيرية، ووالد يارا الذي كان يعتصره الخوف الذي زرعه النظام في نفسه وهو يتشكك بكل ما حوله.
ورغم النهاية السريعة والمفاجئة للفيلم، فإن المخرج عبّر عن خبرة سينمائية، وفهم عميق في المجال السوري وتعاطف إنساني واضح، ولكنه لم يسقط بالمباشرة، وعمل على الفيلم حوالي أربع سنوات كما قال، من بداية الفكرة حتى ساعة عرض الفيلم الذي أطلق في بداية الشهر الحالي، وكان مناسبة للستراسبورغيين حيث جسد الفيلم معالم كثيرة في المدينة وأهمها الجامعة وسوق نويل الذي أنشأه الفيلم في الصيف من أجل نقل روح ستراسبورغ وتقاليدها العريقة.
وكان الفيلم مناسبة مبهجة للسوريين في ستراسبورغ الذين أسهموا بإغنائه عبر وجودهم في أثناء التصوير، وقدموا أغنية حزينة تم قطعها في الفيلم، وكان من الممكن أن تجذب أغانيهم حميدًا، كما قالت إحدى المشاركات السوريات، وتجعله أقل استسلامًا للأشباح التي تطارده.
فيلم الأشباح الفرنسي- السوري عمل فني ولوحة إنسانية غنية بالمشاعر، ويستحق المشاهدة.